قُبلة أسترالية على خد أمير الرواية العربية!
هاتفنى من «سيدنى» صديقى فى المهجر الصحافى اللبنانى «أنيس غانم» رئيس تحرير صحيفة «التلغراف» الأسترالية الناطقة بالعربية (توفى قبل شهور قليلة)، يخبرنى بقدوم شاعرة أسترالية عظيمة القيمة إلى القاهرة، وتتمنى لقاء الأستاذ «نجيب محفوظ» وتحمل معها «قصيدة» كتبتها خصيصا بمناسبة حصوله على «جائزة نوبل»، وكل أمنيتها وقد بلغت من العمر عتيا أن تجلس إليه وتلقى قصيدتها بين يديه.
التقيت الشاعرة الأسترالية المعروفة «آن فيربيرن» فى شقتها بشارع «حسن صبرى» بالزمالك.. امرأة كهلة، مديدة القامة، واسعة العينين، تتدفق حيوية ونشاطا، وتتحدث بلباقة دافقة، ولديها دراية واضحة بتاريخ «الأدب العربى، شعره ونثره» مع عطفة تخصصية فى أدب «وادى الرافدين» قديمه وحديثه.
وتعد فى بلادها «جسر عبور» الأدب العربى إلى المهجر عبر ترجمات لعديد من شعراء العراق والشام ومصر، والتقتها (كما أذكر) الشاعرة المصرية «فاطمة ناعوت» عند زيارتها إلى سيدنى قبل سنوات.
**
(الأديب فى المهجر «شربل بعينى» يقول عن «آن فيربيرن»: «أدخلتنا التاريخ العالمى من بابه الواسع، وهمست فى أذنه: إذا لـم تدخل هؤلاء الأدباء العرب إلى جنّتك، فبئس التاريخ أنت. أفلـم يحن الوقت لندخلها نحن إلى قلوبنا وبيوتنا، ونمنحها شرف المواطنيّة العربيّة، ونقول لها بصوت واحد، من الخليج إلى المحيط: شكراً).
**
«آن فيربيرن» وأخشى أنها تكون قد رحلت، عادة ما كانت تحل ضيفا عزيزا على المهرجات الثقافية العربية فى المهجر وسافرت إلى العراق والشام وخبرت أدبهما، وظلت لديها أمنية أن تزور القاهرة للقاء أمير الرواية العربية نجيب محفوظ كأمنية فى قرار نفسها وقلبها ويحدثها به عقلها، وينطق بها لسانها الزرب بالإنجليزية.
أسرت «آن فيربيرن» لشخصى أنها حلمت حقيقة بأديب نوبل الخرافى، وحدثها وسمعت منه فى الحلم، وتحمل معها قصيدة وهدية، أما القصيدة فهى «حديقتان بالقاهرة» توفرت عليها بشحنة إعجاب يوم أعلن فوزه بجائزة نوبل، وهى القصيدة التى تغنت بها طويلا، وكانت تلقيها فى كل محفل للأدب العربى فى المهجر باعتبارها أيقونتها الخالدة، ويطلبها منها إلقاء بعربيتها اللطيفة أدباء المهجر وسفراء العرب، وكانت فى كل مرة تناجى طيف هذا العظيم وتحلق بقصيدتها تطلب اللقاء.
القصيدة منشورة فى صحيفة «أخبار الأدب»، سلمتها أمانة إلى الراحل الجميل الروائى الكبير طيب الله ثراه «جمال الغيطانى»، لينشرها قاهريا بترجمتها شخصيا، كانت كتبتها بالإنجليزية وترجمتها، ونشرها أنيس غانم فى صحيفة «التلغراف» مع إشارة لاحتضان صحيفة «أخبار الأدب» الذائعة الصيت فى العالم العربى لأبياتها، مزينة بصورتها، وللأسف دون إشارة إلى كونها كبيرة المترجمات الأدبيات فى المهجر.
¿ ¿ ¿
كشفت الشاعرة الأسترالية «آن فيربيرن» تاليا فى حديث صحفى لها، أنها قرأت قصيدتها المعنونة «حديقتان بالقاهرة» للمرة الأولى فى حضور الأديب الكبير بالقاهرة (والذى أبدى إعجابا وتقديرا لها).
¿ ¿ ¿
لم أكن أعرف من أين أسلك الطريق إلى مجلس الأستاذ، المجالس المحفوظية كانت حصرا على الحرافيش من أجيال عدة، وكفانى الروائى الرائع أطال الله فى عمره «يوسف القعيد» مؤونة الحيرة، وطلب منى اصطحابها بعد إخبار الغيطانى إلى مجلس الأستاذ غروب الثلاثاء الأسبوعى فى الباخرة الشهيرة «فرح بوت»، وأخبرتها بالخبر السعيد فكادت تطير من فرحتها وطبعت على خدى قبلة لطيفة، وتزينت، وارتدت أرق ما حملته من «سيدنى»، وفى السيارة الصغيرة التى أقلتنا، كانت تسرح طويلا وهى تطالع شوارع القاهرة مشدوهة بالجمال، ثم تفاجئنى بسؤال به من العربية والإنجليزية مس شوق، حقيقى هنقابل الأستاذ محفوظ، وأطمئنها على قرب تحقق الحلم، وأنا مبهور بالأستاذ، وراسى عال يكاد يلامس سقف السيارة التى تكابد الزحام القاهرى فى الطريق إلى لقاء غريب ومثير.
لم يكن الأستاذ نجيب قد وصل، على وصول، ومجلسه اكتمل على ما أذكر، بترتيب الجلوس، الأساتذة جمال الغيطانى، ويوسف القعيد، وزكى سالم، وعماد العبودي، وآخرون لم ألتقهم قبلا.
قبلها كنت من قراء الأستاذ منذ بواكير الصبا، ولم أكن يوما أحلم باللقاء، لست من حوارييه، لا أملك من صفات حواريى الأستاذ شيئا، لا معلوم، ولا مقرب، ولا أنا شاعر ولا روائى ولا حتى ملما بالصحافة الأدبية التى تؤهلنى لولوج هذا المجلس حتى من باب الصحافة، كنت مثل ضيف غريب على مائدة الأدباء والشعراء والمفكرين.
للمجلس المحفوظى طقوس، الاقتراب بحساب، والجلوس بقواعد، والحديث بصوت عال، والأحاديث الجانبية نادرة.
الأستاذ نجيب وقد كلّ بصره وضعف سمعه بعد محاولة اغتياله الآثمة كان يعانى صحيا، ويتكفل أحدهما القعيد أو الغيطانى فى نقل ما يدور إلى أذن الأستاذ نجيب مباشرة بصوت فيه مس من زعيق، وكأنهما يصبان الكلام صبا فى أذنه، فإذا كانت قفشة أو طرفة انفرجت أساريره، واستنار وجهه بابتسامة، وإذا أعجبته ضحك عاليا، أقرب إلى القهقهة حتى تبان أسنانه التى اصفرت من أثر التدخين.
على رأس الساعة وكل ساعة بحسب تعليمات الطبيب يشعل أقربهم سيجارة للأستاذ، يأخذ نفسا أو نفسين، ويسحبها من أمامه من أشعلها إلى حين، قبل أن يطلبها، آلة الزمن مضبوطة عند الأستاذ، والساعة البيولوجية لم تفسدها مطواة الجهل التى اخترقت رقبته الضعيفة، كان يقظا كامل الحواس، رائعا وهو يعقب بكلمة صغيرة، أو جملة من اسم وخبر، فعل وفاعل، وبالأسماء تعيها ذاكرته الحديدية.
**
جلسنا أقرب إلى المجلس المحفوظى الذى التئم على مائدة بسيطة، طعمية ومشتقاتها، وسمح لنا الأستاذ بعد تعريف لطيف من الأستاذ يوسف، «قال ما أتذكره جيدا»، «يا أستاذ نجيب فيه واحدة جاية من أستراليا عاوزه تسلم عليك»، ابتسم الأستاذ، من أستراليا ياااااه.. مستبعدا المسافة، وعقب بخبث محبب، سنها قد إيه يا يوسف، رد بعفوية، يعنى كبيرة شوية، فعقب وماله «جبر الخواطر»، وحبكت القافية وضحك الجمع وضحك الأستاذ، «كانت فين من زمان، وقفشة أخرى لطيفة.. طبعا المشوار طويل».
والسيدة «آن فيربيرن» فى عالم آخر، سرحانة فى ملكوت الأستاذ «الحلم» فارس أحلامها إذا جاز القول، واقتربت بتؤدة، وأفسح القعيد مكانه لتجلس السيدة التى فاجأت الجمع بطبع قبلة على خد الأستاذ، ولمحت ثمة خجل باد على محياه، وقالت هذا هو الحلم، أما القصيدة وألقت أبياتا منها بصوت واهن، يقينا لم يسمعها الأستاذ على ما بدا منه من اطراق المستمع، هز رأسه مرات متمتما الله.
ونهضت من فورها تفتح الهدية، لوحة صغيرة فى حجم المنديل المنقوش من مقتنياتها النادرة، عمرها يؤشر على أثريتها، تقبلها الأستاذ بقبول حسن، بكل الرضا، ونال منها قبلة ثانية، وعقب الأستاذ، اعزم عليها يايوسف تقعد معنا، فكادت تطير من مقعدها فرحة.
وسهرنا وإياها فى حضرة الأستاذ، والتقطت صورا تذكارية مع المجلس وبالقرب من الأستاذ، ونشرت الصور حينها فى مجلتنا الرائعة «المصور» وحملت فى حقيبتها نسخة من الصور، وتركت القصيدة «حديقتان بالقاهرة» أمانة فى حوزتى لنشرها فى «أخبار الأدب» التى عرفتها فى الجلسة على رئيس تحريرها الروائى الكبير «جمال الغيطانى» يرحمه الله.
ولم تغادر حتى جمعت روايات نجيب محفوظ من مكتبات وسط البلد، وشيئا من روايات الغيطانى والقعيد.. وقضت أيامها تنظر فى صورتها مع الأستاذ نجيب، ملك عليها حياتها.
وأديت الأمانة ونشرت القصيدة كما وعدتها بكرم حاتمى من الأستاذ الغيطانى، وعبثا حاولت البحث عن أبياتها أو طرف منها، ولم أعثر لها على أثر على الشبكة العنكبوتية، لم تكن الصحف دخلت العصر الإلكترونى بعد، وأرسلت لها على عنوانها فى «سيدنى» نسخا من صحيفة «أخبار الأدب»، وردت بخطاب رائع كله حب فى الأستاذ نجيب محفوظ.