أيام قلائل تفصلنا عن موعد الافتتاح الرسمي لمركز الحبتور للأبحاث في مدينة القاهرة، عاصمة جمهورية مصر العربية، الغالية على قلوبنا، هذا المركز الذي بدأ عمله بطريقة منتظمة منذ قرابة العام، حتى اكتملت كافة أركانه، ودارت عجلة العمل فيه بطريقة مثالية، وحان الوقت لإشهاره رسميًا، إذ بات يضُم مجموعة متميزة من خيرة الشباب المصري والعربي ممن يمتلكون مهارات بحثية وكفاءات واعدة وكبيرة.
انهمرت عليَّ العديد من الأسئلة مع بدء توجيه دعوات حفل الافتتاح، وأعتقد أن مزيدًا منها في الطريق بعده، لماذا قد يُنشيء رجل أعمال مركزًا للفكر غير هادف للربح؟ وهو سؤال منطقي، فهو نهج غير مُعتاد في عالمنا العربي، بل وفي منطقتنا ككل.
قبل أن أجيب فإنه لزم التوضيح أن كوني رجل أعمال، يأتي في الترتيب بعد كوني مواطنًا مُهتمًا بالشأن العربي، مُثقلًا بهموم وقضايا وطني الكبير، أتطلع دائمًا لأُساهم بفاعلية في تحسين أوضاعه ودفعه للأمام، فممارسة الأعمال لا تعني الانفصال عن الشأن العام، بل تتركز حوله وتدور في فلكه، لذلك فإن الانفصال عن هموم وقضايا المجتمع لا يستقيم مع مُمارسة الأعمال وعلى الأخص الهادف منها للربح.
تزايد هذا الاهتمام في ظل تقاطر الأزمات على المنطقة خلال العقدين الماضيين، حيث لم تسلم منطقتنا من صفعات الصدمات الخارجية، بداية من أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي ركزت الأنظار على المنطقة بعد تغيُرات جسيمة جرت تحت سطح مُجتمعاتنا العربية، لكننا تفاجأنا بها مع اصطدام الطائرات ببرج التجارة العالمي ومقر البنتاجون في واشنطن. تكررت ذات الصدمة من جديد في عام 2008 مع توالي انهيار المؤسسات المالية العالمية، بسبب سلوك مالي استدامت هذه المؤسسات على مُمارسته لسنوات طوال كان جديرًا بالملاحظة والرصد والتنبيه من عواقبه، ورغم أن موجة الإفلاس بدأت من الولايات المتحدة إلا أن لهيبها طال المنطقة وضغط على شعوبها فرفع أسعار الغذاء، ومعه تزايدت الضغوط السياسية حتي وصلت لكُتلة حرجة تفجرت معها تظاهرات على طول الإقليم خلال عامي 2010 و2011، تلقى معها الأمن القومي العربي أكبر ضرباته منذ ستينيات القرن الماضي.
بعد مرور هذه الموجة، تكررت علينا أخرى قرينة لها في عامي 2019 و2021 عندما باغتتنا أزمة كورونا وتلتها الحرب الروسية الأوكرانية التي وضعتنا أمام ذات الظروف مُجددًا، لتُهدد واقعنا العربي من جديد بعدما استغرقنا عشر سنوات كاملة ليسترد الإقليم بعضًا من عافيته، بتكاليف باهظة ستظل أجيالًا تدفع تكاليفها في المستقبل.
بين هذين الموجتين كنت قد بدأتُ بجهودٍ فردية في كتابة مقالات عديدة في الصُحف العربية والعالمية أستشرف بها مُستقبل وطني وأحذر فيها مما يُحيق به من مخاطر من شتي الأبعاد والاتجاهات، تحقق مُعظمها في الوقت الحالي، ما دفعني لضم جميعها بين دفتي كتاب عنوانه “هل مَن يُصغي؟ كيف يتجاهل قادة العالم التوقعات التحذيرية عن الشرق الأوسط” صدر عام ٢٠١٢، ليُظهر تطابق ما كنت قد توقعته مع ما حدث حرفيًا بعدها بسنوات، الأمر الذي كان سيكفينا مخاطر الصدمات، ويُقلل تكاليفها لو كُنا قد تحسبنا لها وأعددنا لها رباط الخيل.
لا يخفى كذلك على أحد أن هناك تحديات ونقص في مراكز الفكر في الوطن العربي، على تعدد المراكز المُتميزة، أهمها محدودية التمويل، نقص التعاون الدولي، ونقص التقنيات والبيانات، وعدم توافر الكوادر البحثية الكافية. وإذا نظرنا إلى العالم من حولنا سنجد أن العديد من الدول تعتمد بشكل كبير على الدراسات الاستراتيجية والأبحاث عند اتخاذ قراراتها، ما دفع خُطاها في اتجاهات التقدم التكُنولوجي والتعليم والقُدرة على تحقيق التنمية المُستدامة.
زادني ذلك عزمًا على وضع هذه الجهود في إطار مؤسسي، يُعظمها ويُضيف إليها ويُخاطب بها العالم، عبر كفاءات تُخصص كامل