في إضافة علمية متميزة إلى المكتبة القانونية المصرية والعربية، صدر حديثًا عن المستشار نبيل غبريال، المحامي بالنقض، كتاب “الذكاء الاصطناعي في القضاء والمحاماة: التحديات القانونية والفرص المستقبلية”، والذي يتناول بعمق التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي على مهنة المحاماة والمنظومة القضائية. يناقش الكتاب الدور المتنامي للتقنيات الحديثة في تطوير العملية القضائية، مع التركيز على الفرص التي يتيحها هذا التطور، إلى جانب استعراض التحديات القانونية والأخلاقية التي يفرضها.
الذكاء الاصطناعي ودوره في تحديث المنظومة القضائية
يشير المؤلف في كتابه إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح يشكل عاملًا رئيسيًا في تطوير الأنظمة القضائية الحديثة، نظرًا لما يوفره من أدوات قادرة على تحليل البيانات الضخمة، واستخلاص النتائج، وتسريع عمليات البحث القانوني، مما يسهم في تخفيف الأعباء على المحامين والقضاة، ويزيد من كفاءة النظام العدلي ككل.
ويؤكد الكتاب أن أحد أهم أسباب تأثير الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني هو أن النظام القضائي التقليدي يعتمد إلى حد كبير على جهود المساعدين والباحثين القانونيين في البحث عن السوابق القانونية وتحليل النصوص، وهي عمليات تستغرق وقتًا طويلًا، وتؤدي إلى ارتفاع تكاليف التقاضي، حيث تنعكس تكلفة هذه الجهود على أتعاب المحاماة. وهنا يأتي الذكاء الاصطناعي كحل عملي يتيح إنجاز هذه المهام بسرعة ودقة، مما يخفف الأعباء المالية عن المتقاضين، ويساعد المحامين على التركيز على الجوانب التحليلية والاستراتيجية في القضايا.
التطورات التكنولوجية في خدمة العدالة
يطرح المستشار نبيل غبريال في كتابه رؤية مستقبلية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات أكثر تقدمًا داخل النظام القضائي، مثل مقابلة العملاء وجمع المعلومات الأساسية. حيث يشير إلى أن الدراسات النفسية الحديثة تفيد بأن الأشخاص قد يكونون أكثر صراحة ووضوحًا عند التحدث إلى آلة بدلاً من شخص آخر، نظرًا لأنهم لا يشعرون بأنهم قيد الحكم أو التقييم، وهو ما قد يسهم في جمع معلومات أكثر دقة خلال مراحل التحقيق الأولية.
ومع ذلك، يشدد الكتاب على أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل العنصر البشري تمامًا، بل سيكون بمثابة أداة داعمة يمكن استخدامها في عمليات مثل استجواب الشهود وتحليل ردود أفعالهم، حيث يمكن للأنظمة الذكية تسجيل وتحليل لغة الجسد والتغييرات الطفيفة في نبرة الصوت، مما يساعد المحققين والقضاة في تكوين صورة أوضح عن صدق الشهادات ودقة المعلومات المقدمة خلال المحاكمات.
التجارب الدولية في استخدام الذكاء الاصطناعي قضائيًا
يستعرض الكتاب مجموعة من التجارب الدولية الناجحة في توظيف الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات القضائية، مشيرًا إلى أن العديد من الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، بدأت بالفعل في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في منظوماتها العدلية، ليس فقط كأداة مساعدة للمحامين، ولكن أيضًا كوسيلة لتحليل البيانات القانونية واقتراح الأحكام استنادًا إلى السوابق القضائية.
ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، توجد برامج متطورة يمكنها التنبؤ بنتائج القضايا بناءً على تحليل آلاف الأحكام القضائية السابقة، مما يساعد المحامين والقضاة في تكوين رؤى قانونية أكثر وضوحًا حول الاحتمالات المتوقعة لكل قضية. كما أن بعض المحاكم الأوروبية بدأت في تجربة أنظمة إلكترونية لتقييم المخاطر في القضايا الجنائية، بحيث تساعد القضاة في اتخاذ قرارات أكثر دقة بشأن الإفراج المشروط أو الأحكام المخففة بناءً على تحليلات إحصائية دقيقة.
ويؤكد الكتاب أن هذه التطورات لا تعني الاستغناء عن الدور الإنساني في القضاء، وإنما تهدف إلى دعم القضاة والمحامين بوسائل أكثر تطورًا ودقة، مما يساعد في تحقيق العدالة بسرعة وفاعلية أكبر.
القضايا الأخلاقية والتحديات القانونية
بالرغم من الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي للمنظومة القانونية، يسلط الكتاب الضوء على بعض التحديات القانونية والأخلاقية التي يفرضها هذا التطور، مثل:
• مسؤولية الأخطاء: هل يمكن تحميل الذكاء الاصطناعي المسؤولية عن القرارات القانونية الخاطئة؟
• حماية الخصوصية: إلى أي مدى يمكن الوثوق بأنظمة الذكاء الاصطناعي في معالجة بيانات المتقاضين بسرية تامة؟
• التحيز البرمجي: هل يمكن أن تتأثر قرارات الذكاء الاصطناعي بالتحيزات البشرية الموجودة في البيانات التي يتعلم منها؟
يقدم الكتاب مقترحات لمعالجة هذه القضايا، مثل تطوير تشريعات واضحة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء، وضمان وجود رقابة بشرية دائمة على القرارات التي يتم اتخاذها بناءً على التحليلات الذكية، لضمان عدم حدوث أي انحرافات أو تجاوزات قانونية.
إضافة نوعية إلى المكتبة القانونية
يعد كتاب “الذكاء الاصطناعي في القضاء والمحاماة” إضافة علمية متميزة إلى المكتبة القانونية المصرية والعربية، حيث يعالج موضوعًا حديثًا يتماشى مع تطورات العصر الرقمي، ويجمع بين التحليل القانوني العميق والرؤية المستقبلية لدور التكنولوجيا في تحقيق العدالة.
ويبرز الكتاب جهود المستشار نبيل غبريال في تقديم طرح غير تقليدي لموضوع الذكاء الاصطناعي من منظور قانوني، حيث خرج الباحث عن النمط المعتاد في الكتابات القانونية، وقدم رؤية علمية مدعومة بالتجارب الدولية والدراسات الحديثة، مما يجعل هذا الإصدار مرجعًا هامًا للمحامين والقضاة والمشرعين الراغبين في فهم تأثير الذكاء الاصطناعي على مستقبل المهنة القانونية.
إن هذا العمل يمثل إضافة نوعية للمكتبة القانونية، ويعكس حرص الباحثين القانونيين المصريين على متابعة أحدث التطورات التقنية، مما يؤكد أن البحث العلمي في المجال القانوني لا يزال بخير، وأن هناك جهودًا جادة لتطوير المنظومة العدلية بما يواكب تحديات العصر الرقمي.