كتب – صموئيل العشاي
تمثل كلمة المستشار بولس فهمي، رئيس المحكمة الدستورية العليا، رؤية متكاملة تعكس الدور المحوري لمصر في تعزيز التعاون القضائي الدستوري داخل القارة الإفريقية، انطلاقًا من إيمان الدولة المصرية بأهمية دعم الأشقاء الأفارقة في بناء أنظمة قضائية مستقرة تعزز من سيادة القانون، وتحمي الحقوق والحريات، وتسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
ولم تكن هذه الكلمة مجرد خطاب بروتوكولي، بل جاءت محملة برؤية استراتيجية متكاملة تبرز التزام مصر الدستوري والسياسي بتعزيز حضورها القانوني على الساحة الإفريقية، وهو توجه تدعمه القيادة السياسية، وتعمل من خلاله مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية العليا، على بناء جسور التعاون بين النظم القضائية الإفريقية المختلفة.
ومن خلال تحليل مضمون الكلمة، يمكن الوقوف على عدة محاور رئيسية تعكس أبعاد هذا التعاون، وأهميته الاستراتيجية، وتأثيره المباشر على العلاقات الإفريقية المصرية، فضلًا عن تسليط الضوء على أبرز المحطات والنتائج التي حققتها مصر في هذا المجال، وما تمثله من إضافة نوعية لمسيرة القضاء الدستوري الإفريقي.
أولًا: مصر والقضاء الدستوري الإفريقي – التزام دستوري واستراتيجية مؤسسية
أكد المستشار بولس فهمي أن انعقاد اجتماع القاهرة الثامن رفيع المستوى لرؤساء المحاكم الدستورية والعليا والمجالس الدستورية الإفريقية لم يكن وليد اللحظة، بل هو استحقاق دستوري ينبع من الانتماء المصري العميق للقارة الإفريقية، وهو الانتماء الذي يؤكده دستور جمهورية مصر العربية في أكثر من موضع، ليعكس مدى ترسخ الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية التي تجمع مصر بدول القارة.
وقد جاء هذا التوجه ليترجم على أرض الواقع عبر سلسلة من الخطوات الاستراتيجية التي تعكس رؤية مصرية شاملة لتعزيز التعاون الإفريقي في المجال القضائي، حيث تسعى المحكمة الدستورية العليا، بدعم كامل من القيادة السياسية، إلى نقل خبراتها القانونية والدستورية إلى الدول الإفريقية، انطلاقًا من كونها أقدم محكمة دستورية في المنطقة، وتمتلك رصيدًا من الأحكام والتجارب التي جعلتها مرجعًا قضائيًا مهمًا على المستوى الدولي والإقليمي.
هذا التوجه يؤكد أن مصر لا ترى في القارة الإفريقية مجرد امتداد جغرافي، بل فضاءً استراتيجيًا يجب دعمه بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك التعاون القضائي والدستوري، الذي يمثل أحد أعمدة بناء الدول الحديثة، ويعد الركيزة الأساسية لإرساء مبادئ العدالة، وضمان الاستقرار، وتحقيق التنمية المستدامة.
ثانيًا: دور مصر في ترسيخ التعاون القضائي الإفريقي – مبادرات وإنجازات
خلال كلمته، استعرض المستشار بولس فهمي العديد من الإنجازات التي حققها التعاون القضائي الإفريقي بقيادة مصر، مشيرًا إلى أن المؤتمر لم يكن مجرد اجتماع دوري، بل منصة لإطلاق العديد من المبادرات النوعية التي تهدف إلى تعزيز التواصل بين الأنظمة القضائية الإفريقية، وبناء شراكات فعالة في مجال القضاء الدستوري. ومن بين هذه الإنجازات:
1. إنشاء منصة رقمية لتبادل الأحكام القضائية الدستورية بين الدول الإفريقية، وهو إنجاز غير مسبوق على مستوى القارة، حيث يتيح للقضاة الأفارقة فرصة الاطلاع على السوابق القضائية والاستفادة من تجارب الدول الأخرى، مما يسهم في تحقيق التكامل القانوني والقضائي بين الدول الإفريقية.
2. البحث في استخدامات الذكاء الاصطناعي في القضاء الدستوري، وهو توجه يعكس رؤية مستقبلية لكيفية توظيف التكنولوجيا الحديثة في تطوير العمل القضائي، وتحسين كفاءة المحاكم الدستورية في التعامل مع القضايا المختلفة.
3. إنشاء مركز البحوث والدراسات الإفريقية في مصر، وهو مركز يهدف إلى تقديم دراسات وأبحاث متخصصة حول النظم القضائية الإفريقية، وإيجاد حلول قانونية للتحديات التي تواجه الدول الإفريقية في المجال الدستوري، فضلًا عن توفير برامج تدريبية وتأهيلية للقضاة الأفارقة.
هذه الإنجازات تعكس أن القضاء الدستوري أصبح أحد أدوات القوة الناعمة لمصر، حيث باتت المحكمة الدستورية العليا جسرًا لتعزيز التقارب بين الشعوب الإفريقية، وترسيخ مفاهيم العدالة والمساواة، مما يسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل القارة.
ثالثًا: انعكاسات المؤتمر على المستوى الدولي – منصة عالمية للقضاء الدستوري
رغم أن المؤتمر يستهدف بالأساس تعزيز التعاون بين الدول الإفريقية، إلا أن تأثيره تجاوز القارة الإفريقية ليصل إلى المستوى الدولي، وهو ما أكده المستشار بولس فهمي خلال كلمته، مشيرًا إلى انضمام عدد من الدول الأوروبية والآسيوية بصفة أعضاء مراقبين، ومن بينها تركيا، الأردن، العراق، وقطر.
وهذا يعكس أهمية المؤتمر باعتباره منصة دولية مؤثرة، حيث أصبح المنتدى القضائي الإفريقي نموذجًا يجذب أنظار الدول خارج القارة، مما يساهم في تعزيز دور مصر كمركز إقليمي ودولي للقضاء الدستوري، ويدعم مكانتها كشريك استراتيجي في تعزيز سيادة القانون عالميًا.
رابعًا: المحكمة الدستورية العليا في مصر – حارس الحقوق والحريات
أكد المستشار بولس فهمي أن المحكمة الدستورية العليا لعبت دورًا محوريًا في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وحماية الحريات في مصر، مشيرًا إلى أن الدستور المصري يضع سياجًا قويًا لحماية الحقوق الدستورية للمواطنين، كما يمتد هذا المفهوم ليشمل حقوق غير المصريين المقيمين على الأراضي المصرية، حيث أكد أن ملكية الأجانب وحقوقهم الدستورية مضمونة، وهو ما يجعل مصر في مصاف الدول الديمقراطية التي تعلي من شأن حقوق الإنسان.
وأشار إلى أن المحكمة الدستورية أصدرت العديد من الأحكام التاريخية التي عززت مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، مما جعل من القضاء الدستوري المصري نموذجًا يُحتذى به على المستوى الإقليمي والدولي.
خامسًا: القضايا المطروحة في المؤتمر – مواجهة التحديات الإفريقية
بحسب ما أعلنه المستشار محمد عماد النجار، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، فإن المؤتمر سيناقش مجموعة من القضايا الجوهرية التي تمس مستقبل الدول الإفريقية، وعلى رأسها:
1. المخاطر التي تواجه الدول الإفريقية في الظروف الاستثنائية، مثل النزاعات المسلحة، والأزمات الدستورية، والاضطرابات السياسية.
2. دراسة التشريعات الخاصة بالظروف الاستثنائية، من خلال استعراض التجارب القانونية للدول الإفريقية في التعامل مع الأزمات.
3. الرقابة الدستورية على هذه التشريعات لضمان حماية الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.
خاتمة: مصر والقضاء الدستوري الإفريقي – ريادة مستمرة
تعكس كلمة المستشار بولس فهمي التزام مصر العميق بتعزيز التعاون القضائي الدستوري الإفريقي، ليس فقط من خلال المؤتمرات والاجتماعات الدورية، ولكن عبر إطلاق المبادرات النوعية، وتعزيز تبادل الخبرات، وتقديم الدعم الفني والتقني للدول الإفريقية.
كما يؤكد المؤتمر أن مصر لم تعد مجرد دولة فاعلة في القضاء الدستوري الإفريقي، بل باتت محورًا رئيسيًا على المستوى الدولي، وهو ما يعزز من مكانتها كدولة رائدة في تعزيز العدالة وسيادة القانون في العالم.