في عالم يتغير فيه كل شيء بسرعة، هناك أناس يتركون بصمة لا تمحوها الأيام، ولا تُنسى مهما مرت السنون. إنهم أولئك الذين اختاروا العطاء طريقًا، والرسالة نهجًا، والتأثير هدفًا. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم الأستاذ مهران محمد أحمد مهران، الرجل الذي لم يكن مجرد معلم رياضيات، بل كان نموذجًا للمعلم المربي، الذي آمن بأن دوره لا يقتصر على تدريس المناهج، بل يمتد ليشمل تشكيل العقول، وبناء الأجيال، وغرس القيم والمبادئ في نفوس طلابه.
البداية.. رحلة علم وعطاء
من قرية البارود غرب – مركز صدفا، بدأت رحلته التعليمية، حيث حصل على بكالوريوس الرياضيات من جامعة أسيوط، ليعود إلى أرض الواقع، حيث كان العلم ينتظره ليكون أداةً في يديه يشعل بها نور المعرفة في عقول طلابه.
بدأ مسيرته التعليمية في مدرسة عمر بن الخطاب الإعدادية، ثم واصل العطاء في المدرسة الإعدادية الحديثة بالوحدة المجمعة بأولاد إلياس، وفي كل مكان حلّ به، كان شعلة من الجدية، والتفاني، والإخلاص. لم يكن التدريس بالنسبة له مجرد وظيفة، بل كان رسالة مقدسة حملها بإيمان راسخ، ولذلك رفض كل المناصب الإدارية التي عرضت عليه، مفضلًا البقاء في قلب الميدان، حيث يشعر بأن تأثيره حقيقي ومباشر.
هيبة المعلم.. وإخلاص الرسالة
لم يكن أستاذ مهران معلمًا عاديًا، بل كان صاحب شخصية قوية، مهيبة، يغلب عليها الحزم والانضباط، لا يعرف التهاون، ولا يقبل الاستهتار، فقد كان يرى أن العلم رسالة لا تحتمل العبث، وأن التعليم مسؤولية تتطلب الجدية.
كان طلابه يهابونه، لا بسبب القسوة، بل بسبب قوة شخصيته، والتزامه الصارم بالمبادئ التعليمية. لكنه في الوقت نفسه كان قريبًا من طلابه بقدر ما كان صارمًا معهم، فكان المعلم الذي يشرح الدرس بعمق، ويبذل كل جهده في إيصال المعلومة، ويحرص على أن يفهمها الجميع. كان يؤمن بأن الرياضيات ليست مجرد أرقام، بل هي فن التفكير المنطقي، وأسلوب لحل المشكلات في الحياة، وكان يسعى لغرس هذا المفهوم في أذهان طلابه.
غيرته على مادته كانت واضحة للجميع، كأنها جزء منه، وكأنها من اختراعه، لم يكن يقبل أن يكون هناك طالب في فصله لا يجيدها، وكان هذا الحرص هو ما جعل معظم طلابه يتفوقون فيها، بل ويحبونها، رغم صعوبتها على كثيرين.
أثرٌ لا يُمحى.. وعطاءٌ لا يتوقف
مرت السنوات، وتغيرت الأجيال، وكبر الطلاب الذين درسوا على يديه، وأصبحوا أطباء، ومهندسين، ومعلمين، ومسؤولين، ورجال أعمال، وكلهم يحملون في ذاكرتهم صورة ذاك المعلم الجاد، الذي لم يبخل عليهم يومًا بجهده أو وقته، ولم يكن هدفه أن يفرض نفسه عليهم، بل أن يصنع منهم أناسًا ناجحين في حياتهم.
لم يكن يبحث عن مجد شخصي، ولم يكن يسعى إلى شهرة أو سلطة، لكنه نال أعظم تكريم يمكن أن يحظى به معلم، وهو أن يظل اسمه محفورًا في قلوب طلابه، وأن يذكره الجميع بكل تقدير واحترام، وأن يصبح نموذجًا يُحتذى به في مجال التعليم.
واليوم، وهو يستريح بعد سنوات طويلة من العطاء، لا يزال دعاؤنا يرافقه، فنحن نعلم أن المعلم الحقيقي لا يتقاعد أبدًا، لأن أثره يستمر في كل من تعلم منه، وفي كل نجاح تحقق بفضله.
لأن المعلمين العظماء لا يرحلون، بل تبقى آثارهم خالدة في العقول والقلوب، وتظل بصماتهم نورًا يهتدي به من ساروا على دربهم.