لطالما كان الجهاز الإداري للدولة هو المحرك الرئيسي لعمل المؤسسات وتحقيق التنمية، لكن في كثير من الأحيان يتحول هذا الجهاز من أداة لدفع عجلة التقدم إلى عبء ثقيل يعيق التحرك نحو المستقبل. إننا أمام مشكلة جوهرية تتعلق بطريقة إدارة مؤسسات الدولة، وهي مشكلة تتفاقم كلما تم تجاهلها أو محاولة التغطية عليها بأساليب سطحية لا تعالج جذور الأزمة.
هذه الظاهرة يمكن شرحها بوضوح من خلال نظرية الحصان الميت (Dead Horse Theory)، وهي استعارة ساخرة تعبّر عن كيفية تمسك الأفراد أو المؤسسات بحلول غير فعالة، حتى عندما يصبح واضحًا للجميع أن المشكلة الأساسية غير قابلة للإصلاح بالوسائل التقليدية. فإذا كنت تمتطي حصانًا ميتًا، فالحل المنطقي هو النزول عنه والبحث عن وسيلة نقل جديدة، لكن ما يحدث فعليًا في كثير من المؤسسات – ومنها الجهاز الإداري للدولة – هو عكس ذلك تمامًا، حيث يتم اتخاذ إجراءات غير مجدية بهدف الإيحاء بأن الأمور ما زالت تسير في الاتجاه الصحيح، رغم أن الواقع يقول العكس!
الجهاز الإداري… حصان ميت
لو نظرنا إلى الجهاز الإداري للدولة باعتباره حصانًا من المفترض أن يحمل التنمية على ظهره، سنجد أنه لم يعد قادرًا على ذلك بسبب التراكمات البيروقراطية، وغياب الكفاءة، وضعف آليات التقييم والمحاسبة. ومع ذلك، بدلاً من الاعتراف بأن النظام الإداري بحاجة إلى تغيير جذري، نجد أن هناك إجراءات شكلية يتم اتخاذها وكأنها قادرة على حل المشكلة، ومنها:
- تغيير السرج بدلاً من تغيير الحصان
كلما تعثر الجهاز الإداري، يتم الإعلان عن خطط إصلاحية جديدة، واستراتيجيات لتطوير الأداء الحكومي، لكن المشكلة أن هذه الخطط غالبًا ما تكون مجرد تحسينات شكلية لا تمس جوهر الأزمة، بل يتم تزيين الهيكل القديم بأدوات حديثة دون معالجة مشاكله العميقة.
- إطعام الحصان الميت بدلًا من البحث عن حصان جديد
يتم ضخ المزيد من الميزانيات في قطاعات إدارية غير مهمه ، وزيادة أعداد الموظفين، وصرف مكافآت وحوافز، بينما يظل الأداء كما هو دون تغيير يُذكر. فالاعتقاد بأن التمويل الإضافي يمكن أن يعيد الحياة إلى جهاز مترهل هو مجرد وهم يُبدد الموارد دون جدوى.
- تغيير الفارس بدلًا من تغيير النهج الإداري
عند فشل قطاع إداري معين، يتم استبدال المسؤول بآخر، وكأن المشكلة تكمن في الأشخاص وليس في النظام نفسه. لكن ما يحدث هو أن المسؤول الجديد يأتي بنفس العقلية القديمة، ويستمر الجهاز في الدوران في نفس الحلقة المفرغة.
- معاقبة من كان مسؤولًا عن الحصان بدلاً من معالجة أصل المشكلة
بدلاً من إعادة هيكلة المنظومة الإدارية بالكامل، يتم تحميل بعض الموظفين المسؤولية وإقالتهم، أو استبدالهم بآخرين، لكن دون المساس بالأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الفشل الإداري المتكرر.
- تشكيل لجان لدراسة حالة الحصان الميت
عند مواجهة الأزمات الإدارية، تُشكَّل لجان لدراسة الوضع، وتُعقد اجتماعات مطوّلة، وتُعد تقارير تفصيلية، لكن في النهاية تخرج هذه اللجان بنفس النتيجة التي كانت معروفة للجميع منذ البداية: “الحصان ميت”، ومع ذلك تستمر العملية وكأن شيئًا لم يكن.
- إعادة تعريف مفهوم “الموت” للهروب من الاعتراف بالحقيقة
في بعض الأحيان، تصل الأمور إلى درجة من الإنكار تجعل المسؤولين يعيدون تعريف معنى الفشل، فيحاولون إقناع أنفسهم والجمهور بأن الجهاز الإداري ليس فاشلًا، بل هو بحاجة إلى “إعادة تأهيل”، أو “تطوير”، أو “دورات تدريبية”، رغم أن الحل الحقيقي يكمن في إعادة بناء المنظومة بالكامل.
كيف نكسر حلقة الفشل الإداري؟
إذا أردنا الخروج من هذه الحلقة المفرغة، فعلينا أن نتخلى عن السياسات الترقيعية، وأن نواجه الحقيقة بشجاعة. فالحل لا يكمن في تغيير المسؤولين فقط، ولا في ضخ المزيد من الأموال، بل في إعادة بناء الجهاز الإداري وفق أسس حديثة تعتمد على الكفاءة والشفافية والمحاسبة الفعلية. ومن بين الحلول التي يمكن تبنيها:
- تبني الفكر المؤسسي الحديث
يجب تحديث الهياكل الإدارية للدولة، والاستفادة من التكنولوجيا لتقليل التعقيدات البيروقراطية، والتحول إلى الأنظمة الرقمية التي تضمن سرعة الأداء وتقليل الفساد الإداري.
- تقييم الأداء وفق معايير واضحة
لا يمكن الاستمرار في دعم قطاعات غير منتجة دون محاسبة، ويجب وضع معايير حقيقية لقياس الأداء الحكومي، بحيث يتم مكافأة الناجحين، وتصحيح مسار المؤسسات التي تعاني من الفشل الإداري.
- تحقيق مبدأ الثواب والعقاب
العمل في الجهاز الإداري لا يجب أن يكون مجرد وظيفة روتينية تضمن الراتب دون أي إنتاجية، بل ينبغي أن يكون هناك نظام صارم للمحاسبة، بحيث يُكافأ المتميزون ويُحاسب المقصرون بوضوح وشفافية.
- الاعتراف بالمشكلة واتخاذ إجراءات جذرية
بدلاً من تضييع الوقت في تجميل الصورة، يجب الاعتراف بأن بعض القطاعات الحكومية بحاجة إلى إعادة هيكلة كاملة، وقد يكون الحل أحيانًا في تقليص عدد الموظفين، أو إغلاق بعض الإدارات غير الفعالة، أو دمج المؤسسات المتشابهة لتقليل التكاليف وزيادة الكفاءة.
- التركيز على بناء ثقافة إدارية جديدة
التغيير لا يمكن أن ينجح إلا إذا تغيرت العقلية الإدارية نفسها، ولهذا لا بد من تبني ثقافة جديدة تعتمد على الإبداع، وتشجيع المبادرات، ومنح الفرصة للعقول الشابة القادرة على الابتكار بدلاً من الاعتماد على أنظمة قديمة لم تعد صالحة للعصر الحديث.
هل لدينا الشجاعة للنزول عن الحصان الميت؟
والسؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: هل لدينا الشجاعة للاعتراف بأن الجهاز الإداري الحالي بحاجة إلى تغيير جذري، أم أننا سنستمر في إنكار الحقيقة والتمسك بالأساليب القديمة؟
التغيير ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب إرادة حقيقية، وقرارات جريئة، ونهجًا جديدًا في الإدارة يعتمد على الكفاءة والمساءلة. وإذا لم نتخذ هذه الخطوات الآن، فسنظل ندور في نفس الدائرة العقيمة، ونستمر في إهدار الوقت والموارد دون تحقيق أي تقدم حقيقي.
الإصلاح الإداري ليس مجرد ترف، بل هو ضرورة وطنية تفرضها تحديات العصر، فإما أن نواجه الحقيقة بشجاعة وننطلق نحو المستقبل، أو نظل نمتطي “الحصان الميت”، ونتساءل لماذا لا يتحرك!