بقلم: هاني عزيز
في ليلة هادئة، جلست أتأمل تلك الأوراق المصفوفة أمامي، التي تتحدث عن نظام جديد يُدعى “الباكالوريا الدولية”، وهو نظام تعليمي عالمي يراد له أن يجد موطئ قدم في بلادنا. فكرة براقة، ومصطلحات تبدو كأنها ألحان موسيقية تطرق أذن المواطن المثقل بهموم التعليم التقليدي. نظام يحمل وعودًا كبيرة: جيل مبدع، مفكر، وصاحب رؤية.
لكن بينما كنت أُقلّب تلك الصفحات، كان هناك سؤال يُلح عليّ بقوة: هل نحن مستعدون حقًا؟
التعليم.. قضية تتجاوز تغيير المناهج
التعليم، يا سادتي، ليس مجرد استبدال المناهج أو تبديل أسماء الشهادات، بل هو بناء متكامل يشمل العقل، والقلب، والمجتمع. فكيف ننتقل إلى نظام عالمي ونحن لم نحسم بعد معضلات الفصول المكتظة، والمعلمين الذين أثقلهم ضيق ذات اليد، والمناهج التي تخنق روح الإبداع؟
في زيارة لإحدى المدارس الحكومية قبل أشهر، رأيت بعيني كيف يجلس أكثر من 60 طالبًا في فصل واحد، كيف يضيع صوت المعلم بين ضجيج التكدس، وكيف يختفي الفضول الطبيعي للطفل وسط رتابة الحفظ والتلقين. في تلك اللحظة، تساءلت: كيف يمكن لبيئة كهذه أن تتبنى نظامًا تعليميًا يعتمد على التفكير النقدي والإبداع؟
إن التغيير الحقيقي لا يبدأ من الشهادات، بل من الإنسان. فمن هو هذا الطالب الذي نريده أن يبدع في “الباكالوريا الدولية” وهو بالكاد يجد مقعدًا في فصله؟ وأين هو المعلم الذي سيقود هذه الثورة التربوية، وهو يرزح تحت أعباء الحياة دون أن يحظى بتدريب كافٍ أو راتب يليق بدوره المقدس؟
“الباكالوريا الدولية”.. فكرة ملهمة ولكن!
لا أنكر أن “الباكالوريا الدولية” تبدو حلمًا واعدًا. فهي نظام تعليمي يهدف إلى تنمية مهارات التفكير النقدي، وتشجيع البحث والتحليل، وربط الطالب بعالم أوسع وأرحب من المعرفة. لكنها في المقابل، تتطلب موارد ضخمة، ومعلمين مؤهلين، وفصول حديثة، وتجهيزات تقنية متقدمة.
في الوقت الذي لا يزال طلاب القرى والمناطق النائية يعانون من نقص المقاعد، وانقطاع الإنترنت، وعدم توفر معامل علمية مجهزة، هل يمكن أن يكون هذا الحلم متاحًا للجميع؟ أم أنه سيكون رفاهية لا ينالها سوى القلة المحظوظة في المدارس الخاصة؟
المعلم أولًا.. ثم المنهج
إذا أردنا لهذه الفكرة أن تنجح، فعلينا أن نبدأ حيث يجب أن يبدأ أي إصلاح تعليمي حقيقي: بالمعلم.
رأيت ذات يوم معلمًا يجلس في غرفة متواضعة بعد انتهاء يومه الدراسي، يراجع أوراق تلاميذه بعين مرهقة، بينما يحدثني عن حلمه بأن يتلقى تدريبًا حقيقيًا على أحدث أساليب التدريس. قالها بصدق: “نحن لا نخاف من التغيير، لكن من يعلّمنا كيف نُعلّم؟”
كيف نطالب المعلم بأن يكون مرشدًا وموجهًا ومبتكرًا، بينما لا يحصل على دعم مهني ولا حتى على راتب يكفيه لحياة كريمة؟ المعلم هو مفتاح النهضة، وأي نظام تعليمي جديد لن ينجح إلا إذا كان المعلم مؤهلًا، محفَّزًا، ومدعومًا بكل الأدوات التي يحتاجها.
الطالب المصري.. وأحلامه المؤجلة
في إحدى المدارس، وقفت أتحدث إلى طالب في الصف الثالث الثانوي، وسألته عن حلمه. قال لي بابتسامة تخفي وراءها كثيرًا من الأمل الممزوج بالمرارة: “أحلم أن أدرس في نظام يعطيني فرصة لأفكر، لا أن أحفظ فقط.”
هذه الجملة تختصر كل شيء. نحن بحاجة إلى تعليم لا يقتل الفضول، لا يحصر الطالب في إطار الضغوط والدرجات، بل يمنحه مساحة للاكتشاف والإبداع والتجربة. ولكن قبل أن نطبق أنظمة عالمية، علينا أن نسأل أنفسنا: هل هي متاحة للجميع؟ أم أنها مجرد تجربة نخبوية؟
مصر تستحق الأفضل.. لكن هل نحن مستعدون؟
لا أريد أن أكون ناقدًا بلا أمل. نحن بحاجة إلى تطوير حقيقي، إلى ثورة في الفكر التعليمي، إلى رؤية تجعل الطالب المصري قادرًا على المنافسة عالميًا. لكن هذا لن يتحقق إذا تعاملنا مع “الباكالوريا الدولية” كأنها مجرد “ماركة تعليمية فاخرة”، دون أن نؤسس قاعدة صلبة لها.
فلنبدأ أولًا بتحسين بيئة التعليم الأساسية، ودعم المعلمين، وتطوير المدارس، وإتاحة التقنيات الحديثة للجميع، ثم بعد ذلك، يمكننا الحديث عن نظام عالمي يرتقي بأبنائنا.
لعلنا حينها، نستحق أن نقول إننا صنعنا نظامًا تعليميًا حديثًا، لا مجرد صورة جميلة تخفي تحتها المشكلات القديمة.
إن مصر يا سادتي تستحق الأفضل… لكن يبقى السؤال: هل نحن مستعدون لصنعه؟