يُعد عيد الغطاس من أبرز الأعياد القبطية في مصر، حيث يحيي الأقباط ذكرى معمودية السيد المسيح في نهر الأردن على يد القديس يوحنا المعمدان. ولكن رغم جذوره الدينية، فقد تحول عبر العصور إلى عيد مصري أصيل، اندمج في الوجدان الشعبي ليصبح مناسبة وطنية احتفالية تجمع بين التاريخ والعادات الشعبية والتراث العريق، في مشهد يعكس وحدة المصريين وتماسكهم عبر الأزمان.
مصر والمسيح.. ارتباط روحي خالد
لا يمكن الحديث عن عيد الغطاس دون استحضار العلاقة العميقة التي تربط السيد المسيح بمصر، فقد وطأت قدماه أرضها، وشرب من مياه نيلها، وأقامت العائلة المقدسة بها لستة أشهر، فصارت جزءًا لا يتجزأ من مسيرة المسيحية في العالم. لهذا، فإن الاحتفال بعيد الغطاس في مصر يحمل طابعًا روحيًا ووطنيًا، حيث يشعر المصريون، مسلمين وأقباطًا، أن هذه المناسبة ليست مجرد طقس ديني، بل هي جزء من تاريخهم وهويتهم الحضارية. فالمسيح الذي عبر هذه الأرض وباركها بمسيرته فيها، صار رمزًا لوحدة المصريين، الذين احتفلوا بغطاسه في النهر على مر العصور، وتوارثوا تلك العادات والتقاليد جيلاً بعد جيل.
الغطاس في كتب التاريخ
سجّل المؤرخون، مسلمون وأقباط، مظاهر احتفال المصريين بعيد الغطاس عبر العصور، ليكشفوا لنا كيف تحوّل هذا العيد من طقس ديني إلى مناسبة احتفالية كبرى تجمع المصريين جميعًا. فقد ذكر المؤرخ المسعودي في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر أن ليلة الغطاس كانت من أعظم الليالي في مصر، حيث يخرج الجميع إلى شواطئ النيل حاملين المشاعل، وتُضاء المدينة بأكملها، ولا تُغلق الدروب، وتُقام الاحتفالات بمشاركة جميع المصريين، مسلمين وأقباطًا.
أما المؤرخ المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار، فقد وصف كيف كان الناس في ليلة الغطاس يغطسون في مياه النيل رغم شدة البرد، اعتقادًا بأن ذلك يبعد عنهم المرض ويمنحهم البركة. وكان لهذا العيد بهجة خاصة في العهد الفاطمي، حيث كان الخلفاء يشاركون الأقباط في احتفالاتهم، ويوزعون الهدايا والعطايا على المصريين دون تمييز بين مسلم ومسيحي، مؤكدين على التلاحم الوطني بين أبناء الشعب الواحد.
ويوثق إدوارد وليم لين في كتابه المصريون المحدثون طقوس العيد، حيث يصف كيف كان الكهنة يباركون المياه قبل أن يغتسل الناس بها، فيما يتوافد الرجال والشباب والشيوخ إلى النيل للاحتفال والغطس في مياهه الباردة، وسط احتفالات كبرى على ضفاف النهر، حيث تتعالى أصوات الترانيم والتهليلات.
حينما احتفلت مصر كلها بالغطاس
شهد العصر الفاطمي (969-1171م) ازدهار الاحتفالات بعيد الغطاس، حيث اعترف الفاطميون بالأعياد القبطية كأعياد رسمية للدولة، وشارك فيها الخلفاء أنفسهم، مثلما فعلوا في عيد الميلاد وخميس العهد. فكان الخلفاء يخرجون في مواكب عظيمة إلى النيل، وتُنصب الخيام على الشواطئ، وتُضاء المشاعل في البر والبحر، حتى أن وهجها كان يخترق السماء، بينما تجلس الأسر القبطية في خيامها على الضفاف، يحيط بهم المغنون والموسيقيون، ويرتفع صوت الطرب والفرح في الأجواء.
ولم يكن الاحتفال يقتصر على الكنائس، بل كان يشمل الأسواق والشوارع، حيث كان الناس يتناولون الأطعمة المرتبطة بالعيد، مثل القصب والقلقاس، وهي تقاليد ما زالت مستمرة حتى اليوم، إذ يرمز القلقاس إلى التطهير بالماء، بينما يعكس القصب الطول والاستقامة والسمو الروحي.
بهجة العيد
كانت مصر تتحول إلى لوحة مضيئة في ليلة الغطاس، فقد ذكر المسعودي أنه حضر احتفالات الغطاس في مصر سنة 330 هـ، وشهد كيف أوقد الأخشيد محمد بن طفج ألف مشعل في قصره بالجزيرة وسط النيل، بينما كان أهل الفسطاط يضيئون المشاعل والشموع في كل مكان، حتى بدا الليل وكأنه نهار.
أما عبد الرحمن الأبنودي في كتابه أيامي الحلوة، فقد وصف كيف كان الأقباط يحملون الصلبان المضيئة بـ”البلابيصا”، وهي فوانيس مصنوعة من قشر البرتقال، ويسيرون في موكب يمر من دار إلى دار، ومن درب إلى درب، تتلألأ الشموع وتعلو الزغاريد، ويغنون:
“ليلتك يا بلابيصا.. ليلة هنا وزهور..
وفي ليلتك يا بلابيصا.. حنو العصفور!”
وكان الأقباط ينشدون ترانيمهم الشهيرة:
“يا ليلة الغطاس.. يا فرحة كل الناس..
بعماد الرب إيسوس.. نسجد ونقول أجيوس!”
وامتدت الاحتفالات حتى الفجر، حيث كانت المدن والقرى المصرية تشتعل بالنور والفرح، في مشهد يختزل عبقرية المصريين في تحويل الأعياد إلى مواسم للبهجة والوحدة الوطنية.
الغطاس موروث مصري خالد
اليوم، ما زال المصريون يحتفلون بعيد الغطاس بطريقتهم الفريدة، حيث يحرص الأقباط على حضور قداس “اللقان”، الذي يُقام لتقديس المياه، في ذكرى معمودية السيد المسيح. وبعد الصلاة، يتناولون القصب والقلقاس، ويخرجون إلى الشوارع والأسواق، وسط أجواء مبهجة تعكس روح العيد وجماله.
وفي بعض المناطق الريفية، ما زال تقليد حمل “البلابيصا” قائمًا، حيث يخرج الأطفال بالفوانيس البرتقالية، في موكب يشبه ما وصفه الأبنودي قديمًا. أما في المدن، فتظل ليلة الغطاس من الليالي المميزة، حيث يكتظ الناس بالكنائس، وتتزين البيوت بالأضواء، في تأكيد جديد على أن هذا العيد ليس مجرد ذكرى دينية، بل هو جزء من الوجدان المصري، يربط الماضي بالحاضر، ويجمع المصريين على حب الوطن والاحتفاء بتراثهم الخالد.
عيد مصري بامتياز
يظل عيد الغطاس من المناسبات النادرة التي حافظت على طابعها الاحتفالي عبر العصور، حيث تجتمع فيه الروحانية مع العادات الشعبية، ويتداخل التاريخ مع الحاضر، في مشهد يُجسد روح مصر المتفردة، التي عرفت كيف تجعل من كل مناسبة دينية عيدًا وطنيًا، يجمع أبناءها في فرح ومحبة.
وفي كل عام، حينما يحل الحادي عشر من طوبة، يعود المصريون للاحتفال بعيد الغطاس بنفس الحماسة التي شهدها الفاطميون، ونفس البهجة التي وصفها المسعودي والمقريزي، في تأكيد على أن هذا العيد ليس مجرد مناسبة عابرة، بل هو احتفال مصري خالد، يضيء سماء مصر منذ قرون، وسيظل كذلك ما دامت الأرض تدور، والنيل يجري، والمصريون يحتفلون.