بقلم صموئيل العشاي:
الدكتور عماد جاد ليس مجرد باحث سياسي أو محلل يعلق على المشهد العام، بل هو أحد العقول الوطنية النابهة التي عُرفت بطرح رؤى جادة ومتزنة حول القضايا المصيرية التي تواجه مصر. عالم سياسي جليل وصاحب تجربة ثرية في قراءة الواقع واستشراف المستقبل، مواقفه دائمًا نابعة من حرصه الصادق على مصلحة هذا الوطن، وهو ما يتجلى في كتاباته وتحليلاته العميقة التي تخاطب العقول قبل المشاعر.
في خطابه الأخير الموجه إلى سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، طرح الدكتور جاد مجموعة من النقاط المحورية التي تستحق التقدير والاهتمام، والتي تمثل انعكاسًا لقلق مشروع على مسار الوطن ومستقبله. وبينما نثمن رؤيته الوطنية ونقدر طرحه العقلاني، نرى من واجبنا مناقشة بعض ما جاء في هذا الخطاب بروح بناءة وموضوعية، لأن الحوار الهادئ بين أبناء الوطن هو السبيل الأمثل لصناعة الغد الأفضل.
لنبدأ إذن بنقاش مستفيض لكل نقطة طرحها الدكتور عماد جاد، بهدف الوصول إلى مساحة مشتركة من الفهم والاتفاق، إيمانًا منا بأن مصر تتسع لكل الآراء الوطنية التي تسعى نحو رفعتها ونهضتها.
رد مفصل على نقاط الدكتور عماد جاد: نقاش من أجل مصلحة الوطن
أولًا: المهللون والمسؤولية التاريخية
تفضلتم، دكتور عماد، بالإشارة إلى قضية بالغة الأهمية وهي أن التاريخ الحقيقي يُكتب بعد مغادرة الحكام كراسي السلطة، وأن المهللين لهم يكونون أول من ينقلب عليهم ويلاحقهم بالاتهامات بعد الرحيل، مستشهدًا بما حدث مع الرئيس الأسبق حسني مبارك. لا شك أن التاريخ مليء بنماذج تؤكد هذه الظاهرة، ولكن دعونا نتفق أن الوضع الحالي يختلف تمامًا، لأن ما نشهده الآن في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي ليس مجرد مرحلة حكم عادية، بل هو مشروع متكامل لإعادة بناء الدولة المصرية من الأساس بعد فترة من الاضطرابات والفوضى التي كادت أن تطيح بالوطن.
إن ما يقوم به الرئيس السيسي من مشروعات قومية كبرى في البنية التحتية، وتطوير العشوائيات، وإقامة المدن الجديدة، ليس مجرد قرارات مرحلية يمكن التراجع عنها لاحقًا، بل هي خطوات استراتيجية تستهدف تغيير الواقع المصري للأفضل على المدى البعيد. لذلك، أرى أن من حقنا جميعًا كأبناء لهذا الوطن أن نُثمّن هذه الجهود ونقف خلفها، مع التأكيد بالطبع على ضرورة النقد البناء الذي يصحح المسار دون أن يُضعف الروح المعنوية.
ثانيًا: الهوية الوطنية ومخاطر التديين
طرحتم نقطة في غاية الأهمية تتعلق بالهوية الوطنية المصرية، محذرين من خطر الزحف السلفي والإخواني على المجال العام. هذا التحذير له ما يبرره، خاصة أننا جميعًا شاهدنا كيف حاولت هذه الجماعات اختطاف الهوية المصرية خلال فترة حكم الإخوان. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الدولة المصرية اليوم تدرك تمامًا خطورة هذا الملف، وهو ما يتضح في جهودها المستمرة لضبط الخطاب الديني وتجديده، وهو مشروع تبناه الرئيس السيسي منذ سنوات، بل وجعل منه قضية وطنية ودولية في مختلف المحافل.
كما أن الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف يلعبان دورًا مهمًا في هذا المجال من خلال نشر الفكر المعتدل ومواجهة التطرف، وإن كانت هناك حاجة لمزيد من الجهود، فإنني على ثقة بأن القيادة السياسية على دراية تامة بهذا الملف وتعمل عليه باستمرار.
ثالثًا: التديين وقرارات وزير التعليم
ذكرت، دكتور عماد، أن هناك قرارات ومقترحات من وزير التعليم تسير في اتجاه “نشر الدروشة” في المجتمع، محذرًا من أن ذلك قد يؤدي إلى تفسخ المجتمع على غرار ما يحدث في دول أخرى. هنا أرى ضرورة التوضيح بأن أي مشروع تعليمي في دولة بحجم مصر لا بد أن يراعي البعد الثقافي والديني للمجتمع. مصر ليست دولة علمانية بالمفهوم الغربي، لكنها دولة مدنية ذات مرجعية ثقافية وحضارية عميقة الجذور، والتوازن بين التعليم العصري والحفاظ على الهوية الثقافية هو التحدي الأكبر أمام أي منظومة تعليمية.
ومع ذلك، فإن الدعوة إلى تطوير المناهج وتحديث أساليب التعليم بما يتناسب مع متطلبات العصر، خاصة في ظل التقدم التكنولوجي الهائل، هي دعوة مشروعة أتفق معك فيها تمامًا، وأعتقد أن القيادة السياسية تدرك أهمية هذا الملف وتسعى إلى تطويره تدريجيًا.
رابعًا: التوافق الوطني واستعادة الشعبية
أشرت إلى أن التوافق الوطني وكسب الرضاء العام واستعادة الشعبية التي كانت موجودة في 2012-2013 هي السبيل لمواجهة التحديات القادمة. هذا الطرح بلا شك يحمل وجهة نظر تستحق الدراسة، لكنني أرى أن طبيعة المرحلة الراهنة تختلف عن تلك الفترة. المرحلة الحالية هي مرحلة بناء دولة قوية في مواجهة تحديات خارجية وداخلية غير مسبوقة، والتوافق الوطني لا يعني فقط فتح المجال للجميع دون ضوابط، بل يعني أيضًا الحفاظ على هيبة الدولة ومؤسساتها مع تعزيز الحوار المجتمعي الذي يحقق هذا التوافق دون المساس باستقرار الوطن.
خامسًا: وقف عمليات القبض العشوائي وفتح المجال العام
دكتور عماد، دعوتكم لوقف عمليات القبض العشوائي وفتح المجال العام تستحق التقدير، ولكن دعونا نتفق أن الحفاظ على الأمن والاستقرار في دولة بحجم مصر، خاصة بعد ما شهدته من محاولات لضرب استقرارها في السنوات الماضية، يتطلب أحيانًا إجراءات استثنائية. ومع ذلك، فإنني أتفق معك في أن هذه الإجراءات يجب أن تكون مؤقتة، وأن يكون الهدف النهائي هو تحقيق التوازن بين الأمن واحترام الحريات العامة، وهو ما أعتقد أن الدولة تسعى لتحقيقه تدريجيًا.
سادسًا: الأحزاب السياسية ودورها
ذكرت أن رعاية الدولة لأحزاب سياسية هشة لن يثمر عن شيء يُذكر، وضربت مثالًا بالحزب الوطني الذي كان مدعومًا من مؤسسات الدولة لكنه تلاشى في دقائق. هذا التشبيه دقيق جدًا، وأرى أن الدعوة إلى تأسيس أحزاب حقيقية قادرة على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية هي دعوة في محلها تمامًا. مصر تحتاج إلى أحزاب قوية ومستقلة تعبر عن الشارع وتلعب دورًا في صنع القرار، وهو ما يتطلب إصلاحًا سياسيًا متكاملًا لا يقتصر فقط على دعم الأحزاب، بل يشمل أيضًا تطوير الثقافة السياسية في المجتمع.
سابعًا: تشكيل حكومة كفاءات وطنية
أشرت إلى ضرورة تشكيل حكومة كفاءات برئاسة شخصية سياسية ذات خبرة، مع اختيار وزراء من الكفاءات المصرية المهاجرة. هذا الاقتراح يحمل رؤية جيدة للغاية، وأعتقد أن الاستفادة من الخبرات المصرية بالخارج أمر في غاية الأهمية. ومع ذلك، فإن تشكيل مثل هذه الحكومة يتطلب بيئة سياسية ناضجة ومناخًا عامًا يتقبل التغيير ويمنحه فرصة لتحقيق النتائج المرجوة.
ثامنًا: البرلمان ودوره الرقابي
لا شك أن وجود برلمان قوي ومستقل هو أحد أعمدة الدولة الحديثة، وأتفق معك في ضرورة تعزيز دور البرلمان في الرقابة والتشريع، والتأكد من خلوه من العناصر التي قد تسيء إلى دوره أو تضعف من مصداقيته.
تاسعًا: دور المؤسسات السيادية في الاقتصاد
دعوتك إلى إخراج المؤسسات السيادية من الاقتصاد ومنح الفرصة للقطاع الخاص تستحق النقاش العميق. الدور الاقتصادي للمؤسسات السيادية في مصر جاء في مرحلة دقيقة للحفاظ على استقرار الاقتصاد، ولكن مع تحقيق هذا الاستقرار، أرى أنه من الضروري الآن إعادة النظر في هذا الدور بما يتيح للقطاع الخاص حرية أكبر في قيادة الاقتصاد الوطني، مع الحفاظ على دور الدولة كمنظم ومراقب للأسواق.
في الختام، أود أن أشكر الدكتور عماد جاد مرة أخرى على هذا الطرح الثري الذي يعكس حبًا عميقًا لمصر وحرصًا صادقًا على مستقبلها. فمثل هذه الأطروحات الجادة والموضوعية هي ما تحتاجه الساحة الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة، حيث يبقى الحوار الهادئ والعقلاني بين أصحاب الفكر والموقف هو الوسيلة الأمثل لتحقيق التوازن المطلوب بين النقد البناء ودعم استقرار الدولة.
إن الاختلاف في الرؤى لا يقلل من قيمة أي طرف، بل هو جزء أساسي من أي حوار ديمقراطي هدفه الأسمى هو رفعة الوطن واستقراره، فالتاريخ يعلمنا أن النهضة الحقيقية لا تتحقق إلا بتعدد الآراء وتلاقي الأفكار في جو من الاحترام المتبادل والحرص على المصلحة العامة.
مصر، التي يتسع صدرها لكل أبنائها بمختلف توجهاتهم، تحتاج دائمًا إلى عقول جليلة مثل الدكتور عماد جاد تُذكّر وتُحذّر، وتعمل على تعزيز روح التوافق الوطني، الذي هو الضمانة الحقيقية لاستكمال مسيرة البناء والتنمية في ظل قيادة وطنية واعية.