بقلم: حمدي رزق
تاريخ “ريش” كما أسلفنا في مقال عدد نهاية العام الماضي من مجلتنا الغراء (المصور) يحمل أجمل الذكريات الوطنية، يتضمن الكتاب سردية فريدة لرحلة القاهرة مع التحديث المعماري، طوال قرن كامل، ويظهر الأدوار التي لعبتها المقاهي في تاريخ المدينة خلال العصر الحديث.وفي كتاب الصديقة ” ميسون صقر ” المعنون ” مقهي ريش عين علي مصر ” أجمل الأحداث و الذكريات الموثقة ، يركز الكتاب على مقهى “ريش” كأحد نقاط السحر في وسط المدينة، منذ أن اختار مالكه الأول ” ميشيل بولتيس ” اليوناني المغامر محب الفن والثقافة، هذا المسار، وصولا لعائلة عبد الملاك التي لا تزال تديره وتحافظ عليه كإرث ثقافي يتجاوز الخاص الى العام.الكتاب كذلك يكشف عن الدور الذي لعبه مقهي ريش في إنتاج الأفكار وبلورة صيغ فريدة للحوار اقترنت بمحطات التحول الرئيسية وبصورة جعلته أحد المعالم الثقافية الرئيسية في عمارة المدينة التي تقاطعت مع الشأن العاموبعيدا عن الكتاب تذكرك كراسي ريش بمن جلسوا عليها، تكاد تنطق بأسمائهم في تيه وفخار ، على هذا المقهى جلس الشاب الضابط “جمال عبد الناصر” ورفاقه في تنظيم “الضباط الأحرار” في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات يخططون لثورة 23 يوليو 1952، التي أطاحت بـ”الملك فاروق” من الحكم، وعلى هذا المقهى انعقدت ندوة شيخ الرواية العربية صاحب نوبل الراحل الخالد “نجيب محفوظ” لسنوات في الستينيات.. يقال إنه استوحى روايته الشهيرة “الكرنك” من أجواء هذا المقهى ذاته، وعلى “ريش” أيضا جلس الرئيس العراقي المعدوم “صدام حسين” وقت أن كان شاباً هارباً من نظام حكم “عبد الكريم قاسم” في مطلع الستينيات، والشاعر العربي العراقي الكبير الراحل “عبد الوهاب البياتي”.وفي “ريش” تعرف الممثل “محمد عبد القدوس” بزوجته “فاطمة اليوسف” وتزوجا (وصارت فاطمة هى روزاليوسف بعد ذلك) وتعارف الشاعر الفاجومي “أحمد فؤاد نجم” علي الكاتبة المسرحية الكبيرة “صافي ناز كاظم” التي تزوجها فيما بعد، وتعرف الشاعر الكبير “أمل دنقل” إلي الكاتبة الصحفية الحبيبة “عبلة الرويني” التي تزوجها أيضا فيما بعد..**تعددت المقاهي التي لعبت دور “ريش” قبل افتتاح “ريش” ذاتها وبعده..!منها ما اندثر بالفعل مثل “قهوة ماتاتيا” التي أسسها المهندس الإيطالي الذي كان مسؤولا عن تطوير القاهرة في عهد “الخديو إسماعيل” في العام 1875 تقريبا أسفل عمارة مبهرة شامخة في قلب ميدان العتبة (وسط القاهرة تماما) تحمل اسمه “ماتاتيا”. ومن أهم روادها كان الثائر والمفكر الكبير “جمال الدين الأفغانى”.أيضا “جروبي” الذي افتتحه رجل أعمال سويسري اسمه “جياكومو غروبي” عام 1909 في شارع “عدلي” بوسط القاهرة، وأصبح المحل بعد فترة قصيرة جداً ملتقى العائلات الارستقراطية والأجنبية الموجودة في مصر، وضباط الجيش الإنجليزي خلال الحرب العالمية الأولى.وفي عام 1924 أنشأ “غروبي” فرعه الثاني في ميدان سليمان باشا -طلعت حرب حاليا- حيث يضم المحل باراً ومطعماً فاخراً وقاعة للرقص! والطريف أن “غروبي” هو أول من أدخل السينما الصيفية إلى مصر، إضافة إلى أنه أول من قدم الحلوى الغربية، والآيس كريم، والكريم شانتيه، وكان من أشهر رواد المحل أم كلثوم، وأسمهان.غادر “غروبي” إلى موطنه سويسرا تاركاً ابنه لإدارة المحلات، وفي العام 1930 افتتح محل “الأميريكين” بشارع سليمان باشا، عارضاً المشروبات والمأكولات بأسعار أقل من “غروبي”، لكي يكون ملتقى من لا تساعدهم ظروفهم المادية لدخول محلات “غروبى”، وبعد سنوات قليلة افتتح الفرع الثاني بشارع 26 يوليو.أما مقهى “الحرية” فإن جدرانه انتصبت على أنقاض منزل الزعيم الوطني العظيم “أحمد عرابي” بباب اللوق، سمي ذلك الاسم كناية عن دماء الشهداء وأصوات ملايين المصريين الذين نادوا بالحرية، ومن عجب أن ورثة المقهى بلغ عددهم 52 وريثاً! ولايزال المقهى يفوح برائحة التاريخ متمسكاً بملامحه القديمة حتى إعلانات “البيرة” المكتوبة بالفرنسية مازالت معلقة على جدرانه، لأنه من المقاهي المصرّح لها بتقديم البيرة لزبائنها، ولايزال المقهى مزدحماً بالمثقفين.ثمة أيضا مقهى “سوق الحميدية” ويقع في شارع الفلكي بباب اللوق (على مسافة ليست ببعيدة من ريش) وتم تدشينه في العام 1960 عقب الوحدة الشاملة بين مصر وسوريا، إذ افتتح المقهى رجل أعمال سوري ليكون عبارة عن “صالون” يقدم فيه المشروبات المثلجة وجميع أنواع الحلوى والمأكولات السورية للسوريين الموجودين بمصر، وأطلق عليه اسم “صالون” ليتناسب مع النساء والرجال، أما بالنسبة لاختيار اسمه “سوق الحميدية” فهذا الاسم يرجع إلى أكبر سوق في العاصمة السورية.ويقال إن الزعيم “جمال عبدالناصر” شهد افتتاح المقهى كما جاء في كتاب “مقتنيات وسط البلد” للأديب المصري “مكاوي سعيد”.. ومن أشهر الصحافيين الذين كانوا يرتادون المقهى “عبدالوهاب مطاوع”، و”عبدالمنعم رخا”، ومن الفنانين “عادل إمام”، “سعيد صالح”، و”يونس شلبي” و”محمد نوح”.ولا ننسى مقهى “الندوة الثفافية” الذي افتتح في العام 1962 بجوار مقهى “سوق الحميدية” بباب اللوق ليكون مكاناً لالتقاء الكتاب والأدباء والفنانين.المثير في الأمر أن المقهى التزم بتقاليد صارمة لفترة من الزمن مثل عدم تحية الرجال للسيدات بالتقبيل أو العكس، كما منع منعاً باتاً تناول الطعام بالمقهى. وكان من أهم رواده “نجيب محفوظ” و”وحيد سيف” و”محمد الدفراوى”.. ومقهى “ركس” بشارع عماد الدين بوسط القاهرة والذي أنشأه الخواجة “داوود عدس” (المليونير اليهودي صاحب المحال التجارية الشهيرة المروفع عليها اسمه) في العام 1931، فكان أول من اقتنى الكراسي الخشبية من باريس. ومن أشهر رواده “نجيب الريحاني” و”استيفان روستى”، والطريف أن عقد بيع المقهى اشترط في أحد بنوده أن تظل معالمه كما هى، وبالفعل ظلت صورة المقهى كما هي لأكثر من 60 عاماً.**لا يقتصر وجود المقاهي الثقافية على ما ذكرناه وحسب، ثمة مقاهٍ أخرى انبثت في نفس شوارع وسط المدينة، حول “ريش” والمقاهي الشبيهة به، يسميها المثقفون المصريون باسم “المربع الثقافي”.ثمة “أتيليه القاهرة”، وهو في حقيقته ملتقى لأعمال الفن التشكيلي وندوات فكرية وثقافية، لكن به مجلس صغير لا تزيد مساحته عن 50 متراً، يحتسي فيه المثقفون المشروبات الساخنة والباردة، من هذا المقهى الصغير خرجت أبرز المواقف السياسية للمثقفين، من انتفاضة 1977 الشعبية ومشاركتهم فيها، إلى ثورة 25 يناير 2011، إلى ثورة 30 يونيو 2013, التي أسهموا فيها بقوة .هذا المقهى بالغ التأثير على مجريات الحياة الثقافية في مصر، وهو لم يظهر إلا في أواسط السبعينيات، لكنه ولد قوياً منذ بدايته.أما إذا عبرت الشارع الذي يقع فيه الأتيليه (شارع كريم الدولة بوسط القاهرة) فإنك تصبح في شارع “قصر النيل” وعلي بعد أمتار قليلة من “غروبي” تجد نفسك في كافيه “الغريون”.. هنا تقدم المشروبات التي تقدم في “الأتيليه” مضافاً إليها المشروبات الروحية أيضاً، بعض المثقفين لا يرتادون “الغريون” لضيق ذات اليد، فهو مقهى غالٍ في أسعاره، لكن كثيرين منهم يضحون بما في جيوبهم لأجل سهرة أسبوعية واحدة في هذا المكان رفيع المستوى.. الذي من اليسير أن تجد فيه نجوم الثقافة المصرية.. ويملكه عراقي لا يتكلم إلا نادراً، رويت عنه قصص كثيرة، وهو على استعداد لأن يستمع إليك وأنت تقص عليه هذه القصص ثم لا يقول شيئا.. سوى ابتسامة عابرة..!أما “زهرة البستان” فهوالمقهى الملاصق لـ”ريش” تماما، اختطف زبائن ريش لرخص أسعاره، ومعظم جلسائه من الشباب، من السهل جداً في “زهرة البستان” أن تسمع كل ليلة عشر قصائد وعشر قصص قصيرة وفصلين من رواية أو فصلاً من مسرحية، الجميع هنا من المبدعين، يروون ويقصون على بعضهم البعض ما يكتبون.. أو أن تسمع أغنية تعزف على عود أو غيتار، فمن السهل أيضا أن تجد هنا فنانين يفتشون عن فرصة كمن يفتش عن إبرة في كومة من القش..!