في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، جاءت القمة الثلاثية بين مصر، اليونان، وقبرص بمثابة حدث دبلوماسي استراتيجي بالغ الأهمية، يحمل في طياته العديد من الرسائل الواضحة والمباشرة، خصوصًا تجاه تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، الذي طالما سعى لتعزيز نفوذه في شرق المتوسط عبر تحركات سياسية وعسكرية مستفزة. هذه القمة لم تكن مجرد لقاء روتيني بين الدول الثلاث، بل مثلت خطوة محورية لترسيخ التحالف بين الأطراف الثلاثة في مواجهة الطموحات التركية المتزايدة في المنطقة.
1. توقيت القمة: رسالة دبلوماسية مباشرة بعد التصعيد التركي في سوريا وليبيا
توقيت انعقاد القمة لم يكن عشوائيًا، بل جاء في لحظة حرجة تزامنت مع تصعيد تركي واضح في ملفات إقليمية حساسة، أبرزها شمال سوريا وليبيا. في سوريا، سعت تركيا إلى تحقيق مكاسب سياسية عبر عمليات عسكرية تستهدف الأكراد، وفي ليبيا تحاول أنقرة فرض نفوذها من خلال دعم الميليشيات المسلحة واللعب على وتر الفوضى المستمرة في البلاد.
القمة الثلاثية جاءت كرد فعل قوي ومباشر على هذه التحركات، حيث أوضحت أن هناك تحالفًا إقليميًا قادرًا على التصدي لأي محاولة تركية لفرض الهيمنة على شرق المتوسط أو التلاعب بموازين القوى الإقليمية لصالحها.
2. صفعة الغاز: مصر بوابة الطاقة لأوروبا بدلًا من تركيا
أحد أهم المحاور التي ناقشتها القمة كان ملف الطاقة، وهو ملف استراتيجي محوري في منطقة شرق المتوسط. الاتفاق الذي تم بشأن تسييل الغاز القبرصي في مصر ومن ثم تصديره إلى أوروبا عبر اليونان يُعد ضربة قاسية لأنقرة التي كانت تطمح لأن تكون المركز الرئيسي لنقل الغاز إلى أوروبا، خاصة من خلال مشروع خط الغاز القطري – التركي الذي كان يُخطط له عبر سوريا قبل اندلاع الحرب هناك.
بدلًا من ذلك، أصبحت مصر هي المحور الرئيسي للطاقة في المنطقة، حيث تمتلك بنية تحتية متطورة تتيح لها تسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا، مما يعزز من دورها كلاعب أساسي في سوق الطاقة العالمي ويُقصي تركيا من المعادلة.
3. مشروع الربط الكهربائي: ضربة إضافية لطموحات أنقرة
لم تقتصر القمة على ملف الغاز فقط، بل تضمنت أيضًا الاتفاق على مشروع الربط الكهربائي بين مصر وأوروبا عبر اليونان. هذا المشروع يمثل خطوة استراتيجية أخرى تعزز من مكانة مصر كمزود رئيسي للطاقة في المنطقة وتزيد من اعتماد أوروبا عليها في مجال الطاقة النظيفة.
تركيا التي كانت تأمل في أن تصبح هي الجسر الذي يربط الشرق بالغرب في مجال الطاقة تجد نفسها الآن خارج هذه المعادلة الحيوية، مما يُعد ضربة جديدة لأردوغان الذي طالما حاول استغلال موقع بلاده الجغرافي لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية.
4. الدعم الأوروبي لمصر: تعزيز التحالف ضد الأطماع التركية
أحد أبرز مخرجات القمة كان التصريح الواضح من قادة اليونان وقبرص بأنهم سيكونون صوت مصر في الاتحاد الأوروبي. هذا الموقف الداعم يعزز من قوة مصر الدبلوماسية في مواجهة تركيا، خاصة وأن أردوغان كان يسعى منذ سنوات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي دون جدوى.
في المقابل، تجد مصر دعمًا سياسيًا واضحًا من دول الاتحاد الأوروبي، خاصة من اليونان وقبرص، اللتين تتشاركان مع القاهرة في مواجهة التهديدات التركية المستمرة في شرق المتوسط. هذا الدعم يمثل انتصارًا سياسيًا لمصر ويؤكد على نجاح استراتيجيتها في بناء تحالفات قوية تحمي مصالحها الإقليمية.
5. زيارة رئيسة البرلمان الأوروبي لمصر: تأكيد على مكانة القاهرة في المنطقة
بالتزامن مع انعقاد القمة، قامت رئيسة البرلمان الأوروبي بزيارة رسمية إلى القاهرة، وهي خطوة تحمل دلالات رمزية مهمة. هذه الزيارة تؤكد أن مصر أصبحت شريكًا استراتيجيًا موثوقًا به في المنطقة وأن أوروبا تعترف بدورها المحوري في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
توقيت الزيارة، الذي تزامن مع القمة الثلاثية، يُعد رسالة أخرى لأردوغان بأن أوروبا تُراهن على مصر كحليف رئيسي في المنطقة، وليس على تركيا التي تسبب سياساتها العدائية في توتر العلاقات مع العديد من الدول الأوروبية.
6. مصر تسبق بخطوة دائمًا: دبلوماسية استباقية ناجحة
القمة الثلاثية والاتفاقيات التي أسفرت عنها تعكس بوضوح السياسة الاستباقية التي تتبعها مصر في مواجهة التحركات التركية. هذه السياسة تقوم على تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية، وتوثيق التعاون مع الدول المؤثرة في شرق المتوسط وأوروبا، مما يضمن لمصر موقعًا قويًا في مواجهة أي تهديدات محتملة.
مصر، من خلال هذه الخطوات المدروسة، أثبتت أنها قادرة على الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي محاولات لزعزعة استقرارها أو التأثير على أمنها القومي.
ختامًا: مصر ترسخ مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة
القمة الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص لم تكن مجرد لقاء دبلوماسي عادي، بل كانت بمثابة إعلان واضح عن تشكيل تحالف إقليمي قوي قادر على مواجهة الأطماع التركية المتزايدة في شرق المتوسط.
السياسة الحكيمة التي تنتهجها مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي تؤكد أن القاهرة تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة وقادرة على حماية مصالحها الاستراتيجية وتحقيق الاستقرار في المنطقة.
تحيا مصر وعاش السيسي ليست مجرد شعارات، بل حقيقة تتجلى في هذه التحركات الدبلوماسية الناجحة التي تضع مصر دائمًا في مقدمة المشهد السياسي الإقليمي والدولي.