في ذكرى رحيلها الثالثة، لا يمكن الحديث عن تهاني الجبالي دون استحضار تلك الرحلة الفريدة التي جعلتها واحدة من أعظم القامات القانونية في تاريخ مصر. لقد كانت أكثر من مجرد قاضية، كانت رمزاً للمرأة المصرية القوية، المثقفة، والمتمسكة بقيم الحق والعدالة في مواجهة أعتى التحديات. تاريخها الطويل في العمل القانوني والقضائي، وشجاعتها في الدفاع عن استقلال القضاء وسيادة الوطن، يجعلنا نقف اليوم لنرثيها لا بالبكاء والحزن، بل بالفخر والاعتزاز بإنجازاتها التي صنعت بها تاريخاً جديداً للمرأة المصرية.
رحلة التحدي من المحاماة إلى قاعة القضاء
نشأت تهاني الجبالي في أسرة متواضعة بمدينة طنطا، حيث غرست فيها بيئتها الأولى قيم الطموح والاجتهاد. منذ نعومة أظافرها، أظهرت نبوغاً استثنائياً في التعليم، ما دفعها لدراسة القانون بكل شغف، إدراكاً منها أن العدالة ليست مجرد مهنة، بل رسالة سامية تتطلب علماً، حكمة، وشجاعة.
بدأت حياتها المهنية كمحامية في فترة كانت تسيطر فيها الذكورية على المجال القانوني، لكن هذا لم يكن عائقاً أمام طموحها. سرعان ما بزغ نجمها في عالم المحاماة، حتى أصبحت أول سيدة تنتخب عضواً في مجلس نقابة المحامين عام 1989، وهو إنجاز غير مسبوق آنذاك، ويعكس مدى الثقة التي حظيت بها في الأوساط القانونية.
إنجاز تاريخي: أول قاضية في مصر
عندما صدر قرار تعيينها نائبة لرئيس المحكمة الدستورية العليا عام 2003، كانت مصر على موعد مع حدث استثنائي. لقد أثار تعيينها حالة من الجدل، لكنه في الوقت ذاته مثل انتصاراً كبيراً للمرأة المصرية، التي طالما ناضلت من أجل حقوقها في العمل والمساواة. بهذا القرار، لم تحقق تهاني الجبالي ذاتها فقط، بل فتحت الباب أمام أجيال من النساء لدخول السلك القضائي، وكأنها تقول بصوت عالٍ: “المرأة المصرية قادرة على أن تكون في مقدمة الصفوف، ليس فقط في الحياة الاجتماعية، بل في ميادين الحكم والعدل”.
كان تعيينها حدثاً فارقاً في تاريخ القضاء المصري، فلم تكن مجرد قاضية تؤدي دورها الروتيني، بل كانت شخصية قيادية تعي تماماً مسؤولياتها الوطنية. ومن هذا المنطلق، بدأت مرحلة جديدة من التحدي، إذ لم تكن مهمتها سهلة في ظل وجود تيار واسع آنذاك يرى أن القضاء مكان حصري للرجال. لكنها، وكعادتها، واجهت ذلك بحكمة وقوة، وأثبتت كفاءتها بقراراتها العادلة وآرائها القانونية الرصينة.
مواقفها الوطنية وشجاعتها في الدفاع عن الدولة
لم تكن تهاني الجبالي قاضية فحسب، بل كانت صوتاً وطنياً حراً، يتحدث بشجاعة وجرأة في لحظات كان فيها الصمت أيسر وأكثر أماناً. رفضت الهيمنة على القضاء، ووقفت في وجه محاولات تسييس المؤسسات القضائية خلال فترة حكم الإخوان المسلمين، حيث كانت من أوائل من حذروا من خطر تغلغل الجماعة في مؤسسات الدولة. مواقفها هذه جعلتها هدفاً للهجوم من قوى متعددة، لكنها لم تبالِ، وواصلت طريقها بثبات وإيمان بوطنها.
كانت ترى أن القضاء هو الحصن الأخير لحماية الدولة والمجتمع، لذا آثرت أن تضع نفسها في مواجهة الخطر دفاعاً عن استقلاله، غير عابئة بما يمكن أن تتعرض له من ضغوط أو تهديدات.
إرث تهاني الجبالي: سيرة تضيء للأجيال القادمة
لم يقتصر دور تهاني الجبالي على منصبها القضائي فقط، بل امتد إلى المجال الفكري والثقافي، حيث كانت ترى أن القاضي يجب أن يكون مثقفاً، واسع الأفق، مدركاً لمجريات الأمور في وطنه والعالم. ولذلك، لم تتوقف بعد إنهاء خدمتها القضائية عن نشر أفكارها وآرائها القانونية والسياسية في الصحف والندوات، وكانت دائماً حاضرة بقوة في المشهد العام.
إن إرثها لا يتجسد فقط في كونها أول قاضية في مصر، بل في القيم والمبادئ التي غرستها في نفوس الكثيرين ممن عرفوها أو تتلمذوا على يديها. لقد أثبتت أن المرأة المصرية قادرة على اقتحام أية مجالات مهما كانت صعبة، بل والتفوق فيها، وتركت لنا درساً عظيماً في الإيمان بالذات والإصرار على تحقيق المستحيل.
كلمة أخيرة في ذكراها الثالثة
في ذكرى رحيلها الثالثة، نقف بإجلال أمام مسيرة امرأة لم تعرف المستحيل، قادت بشجاعة معركة تغيير الصورة النمطية عن المرأة في القضاء، ورسخت مفهوماً جديداً للعدالة يقوم على الكفاءة لا النوع. تهاني الجبالي لم تكن مجرد قاضية، بل كانت مدرسة في الوطنية، نموذجاً فريداً للمرأة المصرية التي تعشق وطنها وتعمل من أجله دون كلل أو ملل.
رحم الله تهاني الجبالي، تلك القامة القانونية التي ستبقى ذكراها خالدة في قلوبنا، وستظل قصتها مصدر إلهام لكل من يؤمن بأن الحق والعدالة أسمى من كل شيء، وأن المرأة قادرة على تحقيق المستحيل متى أتيحت لها الفرصة. رحلت عن عالمنا، لكنها تركت بصمة لا يمحوها الزمن، واسمها سيبقى محفوراً بحروف من ذهب في سجل قامات مصر الوطنية.