في قلب احتفالات الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة بعيد الميلاد، ألقى القس الدكتور أندريا زكي كلمة مؤثرة حملت في طياتها رسالة إنسانية عميقة، جمعت بين التأمل الروحي في ميلاد السيد المسيح وبين الواقع المعاصر الذي يعيشه العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث التحديات والأزمات لا تزال تفرض نفسها على الحياة اليومية.
افتتح القس أندريا زكي كلمته بالإشارة إلى معنى الميلاد، موضحًا أن ميلاد السيد المسيح لم يكن مجرد حدث تاريخي عابر، بل هو رسالة متجددة للبشرية، تذكرنا بأن هناك دائمًا رجاءً وسط الألم، وأملًا وسط الظلمة. أكد أن ميلاد المسيح هو لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية، حيث التقى المحدود بغير المحدود، وتجلت محبة الله في أبهى صورها.
السياق المعاصر: تحديات المنطقة وأزمات العالم
انتقل القس في حديثه إلى السياق المعاصر الذي تحتفل فيه الكنيسة بعيد الميلاد، مشيرًا إلى الأحداث المؤلمة التي تعصف بالمنطقة العربية. وأوضح أن الاحتفال هذا العام يأتي وسط استمرار نزيف الدم في غزة نتيجة الحرب المدمرة التي تستنزف الأرواح وتدمر المنازل. كما أشار إلى الوضع المأساوي في سوريا، حيث يعاني الشعب السوري من ويلات الحرب وآثارها المستمرة، إضافة إلى القلق حول مستقبل البلاد في ظل غياب الاستقرار السياسي.
لم يغفل القس ذكر الأحداث في السودان، حيث ما يزال القتال الدائر بين الفصائل المسلحة يحصد أرواح الأبرياء، ويضع ملايين البشر أمام مستقبل غامض. كما تحدث عن التحديات الاقتصادية التي تواجه العديد من دول المنطقة، موضحًا أن الإصلاح الاقتصادي، رغم أهميته، يفرض ضغوطًا كبيرة على الشعوب ويزيد من صعوبة الحياة اليومية.
ميلاد المسيح: معنى للحياة وسط التحديات
طرح القس أندريا زكي تساؤلات عميقة تعكس القلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان المعاصر:
• لماذا نحن هنا؟
• هل يمكن للحياة أن تحمل معنى وسط هذا الكم الهائل من المعاناة والتحديات؟
وأوضح أن ميلاد السيد المسيح يحمل الإجابة على هذه التساؤلات، لأنه بميلاده تجسد معنى الحياة ذاتها، إذ أصبح الإنسان مدعوًا إلى إقامة شركة مع الله، وهي الشركة التي تمنح الحياة معناها الحقيقي وتزرع الأمل في النفوس رغم قسوة الظروف.
تأمل في المقطع الكتابي (1 يوحنا 1: 1 – 5)
في هذا السياق، استشهد القس أندريا زكي بكلمات البشير يوحنا في رسالته الأولى:
“اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ…”
وأوضح أن هذه الكلمات كُتبت في زمن صعب للغاية، حين كان المجتمع الذي يخاطبه يوحنا يعيش تحت وطأة حكم الإمبراطور الروماني تراجان، الذي مارس أقسى أنواع القمع وفرض ضرائب باهظة أثقلت كاهل الشعوب. وأضاف أن يوحنا، وسط هذا الظرف السياسي والاقتصادي القاسي، وجه رسالة أمل ورجاء، مؤكدًا أن الحياة تجسدت في شخص السيد المسيح، وأن هذا الميلاد هو بداية الرجاء للإنسانية جمعاء.
المعنى والهدف: الشركة مع الله
أكد القس أندريا زكي أن هدف رسالة يوحنا هو دعوة الإنسان إلى إقامة شركة مع الله، موضحًا أن هذه الشركة هي الغاية الكبرى التي خُلق الإنسان لأجلها، وهي وحدها القادرة على إشباع اشتياق الإنسان العميق إلى المعنى والقيمة. وأوضح أن كل ما يسعى إليه الإنسان في الحياة من مال أو نفوذ أو علاقات لا يمكن أن يشبع هذا الاشتياق الداخلي، بل فقط العلاقة مع الله هي القادرة على منح الحياة معناها الحقيقي.
وأشار القس إلى أن ميلاد السيد المسيح هو الباب الذي يفتح الطريق أمام هذه الشركة، حيث التقى الله بالإنسان في شخص المسيح، وأصبح من الممكن أن يحيا الإنسان في علاقة روحية مع خالقه، علاقة تمنحه القوة على مواجهة التحديات، وتزرع في قلبه الفرح والسلام الداخلي.
الفرح الكامل: بين السعادة العابرة والفرح العميق
أوضح القس أندريا زكي أن هناك فرقًا كبيرًا بين السعادة العابرة التي يشعر بها الإنسان حين يحقق إنجازًا معينًا أو يحصل على مكاسب مادية، وبين الفرح العميق الذي يتحدث عنه يوحنا، وهو الفرح الكامل الذي يشبع الفراغ الوجودي في حياة الإنسان. وأضاف أن هذا الفرح لا يتجاهل الواقع الأليم الذي يعيشه الإنسان، لكنه يمنحه القوة على مواجهته، ويزرع في قلبه سلامًا داخليًا لا يتأثر بالظروف الخارجية.
التطبيق العملي: رجاء الميلاد وسط الأزمات
في ختام كلمته، دعا القس أندريا زكي الحاضرين إلى التأمل في قيم الميلاد الثلاث:
1. الحياة: ميلاد المسيح هو رسالة بأن الحياة لها معنى، وأن الإنسان مدعو إلى أن يحيا حياة مليئة بالقيمة والهدف.
2. الشركة مع الله: الميلاد هو الباب الذي يفتح الطريق أمام إقامة علاقة روحية عميقة مع الله، وهي العلاقة التي تمنح الإنسان القوة والأمل.
3. الفرح الكامل: ميلاد المسيح هو دعوة إلى فرح عميق لا يتأثر بالظروف، فرح يمنح الإنسان سلامًا داخليًا وقدرة على مواجهة التحديات.
وختم القس كلمته بالدعاء بأن يكون ميلاد السيد المسيح هذا العام فرصة للجميع لإعادة اكتشاف معنى الحياة وغاية الوجود في ظل محبة الله، متمنيًا أن يعم السلام والفرح قلوب الجميع.
حضور الاحتفال
شهد الاحتفال حضور عدد من الشخصيات البارزة الذين مثلوا رموزًا دينية وسياسية في المجتمع المصري، ومنهم:
• الدكتورة فيبي فوزي، وكيل مجلس الشيوخ، ممثلة عن المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، رئيس مجلس الشيوخ.
• اللواء طيار أركان حرب عمرو عبد الرحمن صقر، رئيس أركان القوات الجوية، ممثلًا عن الفريق أول عبد المجيد صقر، وزير الدفاع والإنتاج الحربي.
• الدكتور محمد أبو زيد الأمير، نائب رئيس جامعة الأزهر، ممثلًا عن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر.
• نيافة الأنبا إكليمندس، الأسقف العام، ممثلًا عن قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.
ختامًا، كان الاحتفال بعيد الميلاد فرصة للتأكيد على معاني الحياة والرجاء والفرح التي يحملها ميلاد السيد المسيح للبشرية، ورسالة متجددة بأهمية المحبة والسلام في مواجهة تحديات العالم.