في خضم أصعب لحظات التاريخ الحديث، عندما كانت مصر تواجه تحديًا مصيريًا في استعادة كرامتها الوطنية، ظهر رجال أخلصوا لوطنهم وعملوا في صمت خلف الكواليس ليضعوا أقدام مصر على طريق النصر. من هؤلاء الرجال اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية والمتخصص في الشأن العسكري الإسرائيلي السابق ، الذي يُعد بحق أحد أبرز رموز الاستخبارات المصرية في القرن العشرين، وبطلاً قومياً كبيراً ساهم في تحقيق انتصار أكتوبر المجيد.
لقد كان اللواء محمد رشاد العقل المدبر وراء إنشاء “غرفة معلومات حرب أكتوبر”، التي مثلت نواة التخطيط الاستراتيجي والاستخباراتي للمعركة. فهذه الغرفة لم تكن مجرد مركز لجمع البيانات، بل كانت العقل المفكر الذي أدار عمليات تحليل المعلومات وتحويلها إلى تقارير دقيقة، قُدمت إلى القيادة العامة للقوات المسلحة، مما مهد لاتخاذ القرارات الحاسمة التي قادت إلى الانتصار على إسرائيل في السادس من أكتوبر عام 1973.
عندما تولى اللواء محمد رشاد مهمة تأسيس غرفة معلومات حرب أكتوبر داخل جهاز المخابرات العامة، أدرك أن المواجهة مع إسرائيل ليست مجرد معركة ميدانية، بل هي حرب معلومات بامتياز. فقد اعتمدت إسرائيل على التفوق الاستخباراتي طوال عقود في تحقيق مكاسبها العسكرية، ولذلك كان من الضروري تأسيس منظومة متطورة تقدم معلومات دقيقة ومحدثة باستمرار.
استعان رشاد بفريق عمل من أكفأ الضباط في الجهاز، وحرص على تدريبهم بأسلوب عملي على كيفية جمع وتحليل المعلومات من مصادر متعددة، سواء عبر شبكات التجسس داخل إسرائيل أو من خلال وسائل الإعلام الإسرائيلية أو عن طريق الصور الجوية وتقارير المراقبة الدولية.
كان العمل داخل الغرفة يجري على مدار الساعة بلا توقف، حيث تُعرض المعلومات الواردة فورًا على فريق التحليل، ليتم تقديم تقارير واضحة للقيادة العامة للقوات المسلحة. هذه التقارير تضمنت تحليلاً مفصلاً لتحركات القوات الإسرائيلية، استعداداتها، وأبرز نقاط ضعفها، مما مكن القيادة المصرية من تحديد موعد العبور بدقة ووضع خطة الحرب بناءً على معلومات حقيقية وموثوقة.
كان اللواء رشاد وفريقه في غرفة المعلومات يراقبون عن كثب كل تحرك على الجبهة الإسرائيلية. ومن بين أهم التقارير التي قدمتها الغرفة، تقرير مفصل عن الثغرات الموجودة في خط بارليف، وأماكن ضعف الدفاعات الإسرائيلية، والتي أصبحت بعد ذلك نقاط الاختراق الرئيسية التي اعتمدت عليها قواتنا المسلحة في عملية العبور.
كما كشفت غرفة المعلومات بقيادة رشاد عن التحركات الإسرائيلية المتكررة لمحاولة توقع موعد الهجوم المصري والسوري ، وهو ما ساعد القيادة على التمويه وإيهام العدو بأن مصر لن تقدم على الحرب في ذلك التوقيت.
لم يتوقف دور اللواء محمد رشاد عند قيادة غرفة معلومات حرب أكتوبر، بل أصبح مدرسة متكاملة في فنون العمل الاستخباراتي. لقد وضع أسسًا جديدة في جمع وتحليل المعلومات، وأسهم في تدريب أجيال من الضباط الذين أصبحوا فيما بعد من قادة العمل الاستخباراتي في مصر والمنطقة.
ويُعد رشاد أحد القلائل الذين استطاعوا بناء منظومة متكاملة تعتمد على دمج المصادر الاستخباراتية المختلفة وتقديم رؤية شاملة للقيادة، وهو ما جعل مصر نموذجًا يُحتذى به في العمل الاستخباراتي على مستوى الشرق الأوسط.
إلى جانب دوره في حرب أكتوبر، لعب اللواء رشاد دورًا محوريًا في العديد من القضايا الاستخباراتية الكبرى التي كان لها تأثير مباشر على الأمن القومي المصري. ومن بين هذه القضايا، قضية الجاسوسة “هبة سليم”، التي أدار تحقيقاتها بكفاءة عالية، مما أدى إلى تفكيك شبكة تجسس إسرائيلية كانت تعمل داخل مصر.
اليوم، ورغم مرور أكثر من خمسين عامًا على حرب أكتوبر، يواصل اللواء محمد رشاد دوره الوطني كمعلم وموجه للأجيال الجديدة من ضباط المخابرات، مؤكدًا أن العمل الاستخباراتي هو علم وفن يحتاج إلى تطوير دائم لمواكبة التحديات الجديدة.
في مقابلة نادرة أجريت معه، تحدث اللواء محمد رشاد عن ذكرياته مع غرفة معلومات أكتوبر، وكيف استطاع مع فريقه تقديم تقارير غيرت مجرى الأحداث وساعدت في تحقيق النصر. هذه المقابلة تقدم شهادة حية من أحد أبطال المعركة الاستخباراتية التي قادت إلى انتصار أكتوبر العظيم.
إن اللواء محمد رشاد ليس مجرد ضابط مخابرات أدى واجبه في فترة زمنية معينة، بل هو رمز وطني كبير ومعلم للأجيال، ترك بصمة لا تمحى في تاريخ العمل الاستخباراتي المصري. ولا يزال اسمه يتردد باعتباره أحد أبرز من ساهموا في صناعة النصر وحماية الأمن القومي المصري.
أطال الله في عمر اللواء محمد رشاد، ومتعه بالصحة والعافية، ليظل معلمًا وموجهًا، ينقل خبراته العظيمة للأجيال القادمة، ويبقى مثالاً يُحتذى به في الإخلاص للوطن والعمل الدؤوب في خدمة أمنه واستقراره.
إن مصر التي أنجبت هذا البطل القومي الكبير ستظل دائمًا مدينة له ولأمثاله من الأبطال الذين يثبتون أن الوطن يُبنى بسواعد المخلصين وقلوب الأوفياء.