منذ أن استولت الجماعات المتطرفة وعلى رأسها تنظيم داعش على بعض المناطق السورية، لم يكن هدفها السيطرة على الأرض فحسب، بل أيضًا الهيمنة على عقول الأجيال الجديدة لضمان استمرار فكرها المتشدد عبر الأجيال القادمة.
من المعروف أن التعليم هو الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان ووعيه المجتمعي، ولهذا السبب جعلت هذه الجماعات التعليم في مقدمة أولوياتها، فقامت بتغيير المناهج الدراسية السورية بشكل جذري. الهدف لم يكن مجرد تعديل محتوى المناهج، بل إعادة صياغتها بالكامل وفقًا لرؤية التنظيم المتشددة، وتحويل المدارس من أماكن لنشر العلم والمعرفة إلى ساحات لنشر الأيديولوجيا المتطرفة.
محاولات خلق جيل متطرف
تاريخيًا، كانت سوريا منارة للعلم والثقافة، إذ ضمت مؤسسات تعليمية عريقة تخرج منها علماء ومفكرون أسهموا في إثراء الحضارة العربية والإسلامية. لكن، منذ وقوع أجزاء من البلاد تحت سيطرة داعش، باتت المناهج التعليمية أداة لغسل أدمغة الطلاب، بهدف خلق جيل متطرف يحمل راية التنظيم ويدافع عنه في المستقبل.
في هذا السياق، أصدرت وزارة التعليم الخاضعة لسيطرة الجماعات المتطرفة مجموعة من القرارات التي أحدثت تغييرًا جذريًا في مضمون المناهج الدراسية. وكان من أبرز هذه القرارات:
1. حذف كافة أحاديث فضائل الأعمال:
يرى التنظيم أن الأحاديث النبوية المتعلقة بفضائل الأخلاق والأعمال الصالحة لا تخدم مشروعه القائم على العنف والتشدد، لذا عمد إلى حذفها واستبدالها بأحاديث تتعلق بالجهاد والقتال، مع التركيز على الأحاديث التي تحمل في مضمونها دعوات للعنف.
هذا التغيير ليس مجرد تعديل في النصوص، بل هو محاولة لتوجيه عقل الطالب نحو رؤية أحادية تقوم على فكرة أن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الوحيد لتحقيق الغايات، متجاهلًا تمامًا الأحاديث التي تدعو إلى الرحمة والتسامح والإحسان إلى الآخرين.
2. حذف نظرية التطور من مادة العلوم:
تعتبر الجماعات المتشددة أن كل ما يخالف تفسيراتها الدينية الضيقة هو كفر يجب محاربته. ولهذا السبب، قامت بحذف نظرية التطور من المناهج الدراسية بدعوى أنها “نظرية كفار” تخالف النصوص الدينية.
هذا القرار يعكس العداء العميق الذي تكنه هذه الجماعات للعلم والمعرفة، حيث تحاول إبقاء المجتمع في حالة من الجهل والتخلف، من خلال محاربة كل ما يرتبط بالعلم الحديث.
3. حذف تاريخ سوريا القديم:
لم يكن حذف نظرية التطور كافيًا بالنسبة للتنظيم، بل امتدت قراراته إلى حذف كل ما يتعلق بتاريخ سوريا القديم وحضاراتها العريقة، مثل الحضارة الآرامية والكنعانية وغيرها، بدعوى أن هذه الحضارات كانت تعبد آلهة وثنية، وبالتالي لا يجب تدريسها.
هذه الخطوة تهدف إلى قطع صلة الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم وهويتهم الثقافية، وتحويلهم إلى أفراد بلا جذور، يسهل السيطرة عليهم وتوجيههم نحو الفكر المتطرف الذي يسعى التنظيم إلى ترسيخه.
4. إلغاء مفهوم الدفاع عن الوطن:
في محاولة لتفكيك الروابط الوطنية بين أبناء الشعب السوري، قام التنظيم بحذف كل ما يتعلق بفكرة الدفاع عن الوطن من المناهج الدراسية، واستبدالها بمفاهيم دينية متشددة مثل “الجهاد في سبيل الله” و”إعلاء كلمة الله”.
هذه الخطوة تهدف إلى تحويل الولاء من الوطن إلى التنظيم نفسه، بحيث يصبح الدفاع عن التنظيم وأفكاره هو الهدف الأسمى للطلاب، بدلًا من الدفاع عن بلادهم وحمايتها من الأخطار الخارجية.
5. استبدال القوانين المدنية بالشريعة:
في خطوة أخرى تعكس توجه التنظيم نحو إقامة “دولة الخلافة” التي يحلم بها، تم استبدال القوانين المدنية المعمول بها في سوريا بتفسيرات التنظيم الخاصة للشريعة الإسلامية.
هذا التوجه يهدف إلى القضاء على كل مظاهر الدولة المدنية الحديثة، وفرض نموذج متشدد يهمش حقوق المرأة والأقليات، ويمنع أي محاولة لإقامة مجتمع قائم على التعددية والمساواة.
6. حذف الموسيقى من النشيد الوطني:
باعتبار الموسيقى “لهوًا محرمًا” وفقًا لفكر التنظيم المتشدد، أمرت وزارة التعليم الخاضعة لسيطرة الجماعات المتطرفة بحذف الموسيقى من النشيد الوطني السوري.
هذا القرار ليس مجرد تغيير في محتوى النشيد الوطني، بل هو محاولة لطمس كل مظاهر الفنون والإبداع في المجتمع، وتحويل الحياة إلى مجرد طقوس دينية صارمة تخلو من أي بهجة أو جمال.
مقارنة مع تجربة طالبان في أفغانستان
ما يفعله داعش في سوريا يعيد إلى الأذهان تجربة طالبان في أفغانستان خلال التسعينيات. فقد قامت طالبان، حين سيطرت على الحكم، بإغلاق المدارس وتغيير المناهج الدراسية، وفرضت رؤيتها المتشددة على كافة مناحي الحياة، مما أدى إلى تدمير المجتمع الأفغاني وإبقائه في حالة من التخلف لسنوات طويلة.
اليوم، يسير داعش على خطى طالبان، محاولًا إعادة إنتاج نفس النموذج في سوريا، مما ينذر بمستقبل مظلم للبلاد إذا لم يتم التصدي لهذا المشروع المتطرف.
التداعيات الاجتماعية والنفسية على الأطفال
لا تقتصر خطورة هذه التعديلات على الجوانب التعليمية فقط، بل تمتد إلى التأثير بشكل عميق على نفسية الأطفال وسلوكهم الاجتماعي.
فالطفل الذي ينشأ في بيئة تعليمية تقوم على العنف والتطرف، سيكون أكثر عرضة للانخراط في صفوف الجماعات المتشددة في المستقبل، مما يعني استمرار دائرة العنف والدمار في سوريا.
علاوة على ذلك، فإن إلغاء كل ما يتعلق بالفنون والثقافة من المناهج الدراسية سيؤدي إلى خلق جيل يفتقر إلى القدرة على التعبير والإبداع، ويعيش في حالة من الانغلاق الفكري والعاطفي.
دور المجتمع الدولي في مواجهة التطرف
لمواجهة هذا الخطر، لا بد من تكاتف الجهود الدولية والمحلية لإعادة بناء التعليم في سوريا على أسس مدنية حديثة.
يجب أن يكون التعليم أحد أهم أولويات إعادة الإعمار في سوريا، لضمان نشوء جيل جديد يؤمن بالتعددية والتعايش، ويكون قادرًا على النهوض ببلاده بعد سنوات طويلة من الحرب والدمار.
التعليم هو المفتاح لبناء مستقبل أفضل لسوريا، وأي تهاون في هذا المجال يعني التخلي عن الأجيال القادمة لمصير مجهول تحت حكم الجماعات المتطرفة.
خاتمة: معركة مستمرة من أجل العقول
إن ما تشهده سوريا اليوم هو معركة حقيقية من أجل العقول والقلوب. فبينما تسعى الجماعات المتطرفة إلى فرض سيطرتها على عقول الأطفال والشباب من خلال التعليم، يجب أن يكون هناك جهد مضاد يهدف إلى الحفاظ على هوية سوريا المتنوعة، وإعادة بناء مجتمعها على أسس من العلم والمعرفة والتعايش.
التعليم هو السلاح الأقوى في هذه المعركة، وبدونه لن يكون هناك أمل في مستقبل أفضل لسوريا.