بعد نصر أكتوبر المجيد عام 1973، اتخذت مصر بقيادة الرئيس محمد أنور السادات قرارًا تاريخيًا بتغيير مسارها السياسي والاقتصادي، وإعادة صياغة علاقتها مع القوى العالمية. هذا القرار لم يكن مجرد اختيار، بل ضرورة فرضتها الظروف الدولية والإقليمية التي كانت تسيطر عليها صراعات الحرب الباردة. وعلى الجانب الآخر، اتخذت سوريا بقيادة حافظ الأسد طريقًا مختلفًا، حيث استمرت في ارتهان قرارها الوطني للقوى الخارجية، مما أدى بها إلى متاهة من الأزمات والصراعات التي استنزفت مواردها وشعبها على مدار عقود.
مصر: استرداد القرار الوطني وتحرير الأرض
بعد الحرب، أدرك الرئيس السادات أن النصر العسكري على الأرض يجب أن يتبعه نصر سياسي يعيد لمصر استقلاليتها وكرامتها. كان يعلم أن استمرار الاعتماد على السوفييت لم يعد يخدم المصلحة الوطنية، بل كان يُبقي مصر أسيرة لعبة النفوذ بين الشرق والغرب. لذا، اختار أن يتحرك بشكل مختلف، وبخطوات جريئة:
• إلغاء معاهدة الدفاع المشترك مع السوفييت: التي كانت تكبل مصر سياسيًا وتجعلها تدفع أثمانًا باهظة لخدمة مصالح السوفييت دون أن تحصل على ما يعزز موقفها. هذا القرار كان نقطة تحول حقيقية، حيث حرر مصر من قيود التحالفات التي كانت تخدم قوى أخرى أكثر مما تخدمها.
• الانفتاح على الغرب والتفاوض المباشر: بدلاً من أن تظل مصر ورقة في أيدي الوسطاء، قرر السادات أن يتحدث مباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو قرار جريء في ذلك الوقت. كان يؤمن بأن المفاوضات المباشرة تُعطي مصر الفرصة لعرض قضيتها ومطالبها بشكل أوضح وأكثر فاعلية.
• استعادة الأرض والسيادة: هذا المسار أدى في النهاية إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، التي بموجبها استعادت مصر سيناء بالكامل، ما عدا طابا التي عادت لاحقًا عبر التحكيم الدولي.
هذه الخطوات لم تكن سهلة؛ فقد واجه السادات انتقادات داخلية وإقليمية واسعة، لكن النتيجة كانت واضحة: مصر استعادت أرضها كاملة وأعادت صياغة موقعها كدولة مستقلة لها سيادتها وقرارها الحر.
سوريا: الارتهان للخارج وفقدان الأرض
في الجهة المقابلة، سلكت سوريا بقيادة حافظ الأسد طريقًا مختلفًا تمامًا. ورغم أنها شاركت في حرب أكتوبر، إلا أن النظام السوري لم يُظهر أي نية حقيقية لاستكمال تحرير الأرض أو استعادة القرار الوطني. بل استمر في الاعتماد على الدعم السوفييتي كركيزة أساسية لبقاء نظامه، دون أن يقدم حلولاً جذرية لقضية الجولان أو لتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي.
• فقدان الجولان: بينما نجحت مصر في استعادة سيناء، بقيت مرتفعات الجولان السورية تحت الاحتلال الإسرائيلي، لتتحول إلى ورقة ضغط تستخدمها القوى الكبرى لتحقيق مصالحها، في ظل غياب أي خطوات جدية من النظام السوري لتحريرها.
• دكتاتورية شمولية: ركز نظام الأسد على تثبيت حكمه وقمع المعارضة بدلاً من توجيه الجهود نحو استرداد الأرض. هذا النهج أدى إلى تهميش الشعب السوري وإضعاف قدراته على المطالبة بحقوقه المشروعة.
• التبعية للروس: ظل النظام السوري يعتمد بشكل كامل على الدعم الروسي، مما جعله رهينة لموسكو التي كانت تستخدم سوريا كأداة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.
ومع مرور الوقت، تعمقت مأساة سوريا، حيث دخلت في دوامة من الصراعات الداخلية منذ عام 2011، بدأت بثورة شعبية تطالب بالإصلاح، وانتهت بحرب أهلية مدمرة أطاحت بمقومات الدولة وحولتها إلى ساحة لتدخلات أجنبية من جميع الأطراف، بما فيها روسيا وإيران وتركيا.
الفرق بين مصر وسوريا: قرار مستقل أم ارتهان دائم؟
الفرق الجوهري بين مصر وسوريا يكمن في القدرة على اتخاذ القرار الوطني المستقل. مصر، بقيادة السادات، اختارت طريقًا صعبًا ولكنه استراتيجي، أعاد لها سيادتها ومكانتها. أما سوريا، فقد فضلت البقاء تحت جناح الهيمنة الخارجية، مما أدى بها إلى فقدان الأرض والكرامة الوطنية.
دروس الماضي ورسائل المستقبل
التجربة المصرية تُظهر أهمية القيادة الواعية التي تُدرك متطلبات المرحلة وتضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. بينما تكشف التجربة السورية مأساة الارتهان للخارج وإهمال القضايا الوطنية الحقيقية.
فهل تستطيع سوريا اليوم أن تستلهم تجربة مصر وتبدأ مسارًا جديدًا نحو استعادة سيادتها؟ أم أن عقودًا من الأخطاء ستُبقيها أسيرة صراعات لا نهاية لها؟