شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وتركيا تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، لا سيما على الصعيدين العسكري والدفاعي. ومع تعمق التعاون بين البلدين، ظهرت تساؤلات وتحليلات حول النوايا التركية الحقيقية، إذ يرى مراقبون أن أنقرة تسعى إلى استغلال هذا التقارب لتحقيق أهداف استراتيجية طويلة المدى، بما في ذلك زرع قواعد عسكرية تركية داخل المملكة.
سياق التعاون السعودي التركي: محطات بارزة
بدأت مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسعودية في يوليو 2023. خلال هذه الزيارة، تم توقيع خطط تنفيذية للتعاون الدفاعي، شملت استحواذ المملكة على طائرات مسيرة تركية من شركة “بايكار”، وتوطين صناعتها داخل السعودية بمشاركة الشركات الوطنية.
لم تقتصر الشراكة على ذلك، بل شملت سلسلة متواصلة من الاجتماعات والزيارات رفيعة المستوى. فقد زار رئيس هيئة الأركان السعودي الفريق الركن فياض الرويلي تركيا مرتين خلال عام واحد، والتقى بنظيره التركي الفريق الركن متين غوراك. كما اجتمع مع مسؤولي الصناعات الدفاعية التركية، مما يعكس تنامي مستوى الثقة والتنسيق بين الجانبين.
تدريبات عسكرية واتفاقيات نوعية
شهدت الأشهر الأخيرة مشاركة فروع القوات المسلحة السعودية في تدريبات عسكرية مكثفة في تركيا. حضر هذه التدريبات كبار المسؤولين العسكريين السعوديين، من بينهم رئيس هيئة الأركان السعودي، الذي جلس بجوار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء عرض ختامي لهذه المناورات.
التركيز لم يكن على التدريبات فقط؛ بل تخللته اتفاقيات متعددة لتطوير الصناعات الدفاعية وتبادل الخبرات. تضمنت الاجتماعات أيضًا بحث توطين تقنيات إنتاج الطائرات المسيّرة، ما يعزز قدرات المملكة الدفاعية. ورغم أن هذه التحركات تحمل طابعًا إيجابيًا للتعاون، إلا أن تحليل السياق الإقليمي يثير تساؤلات حول النوايا التركية الحقيقية.
طموحات أنقرة: من التعاون إلى زرع النفوذ
تركيا، التي أقامت قاعدة عسكرية دائمة في قطر عام 2015، تحاول منذ سنوات تعزيز وجودها العسكري في الخليج. في عام 2017، صرح الرئيس أردوغان بأن بلاده اقترحت إقامة قاعدة عسكرية تركية في السعودية، مشابهة لتلك الموجودة في قطر. ورغم عدم صدور رد رسمي من المملكة حتى الآن، إلا أن التحركات التركية المتواصلة تلمح إلى رغبتها في إحياء هذا المشروع.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الزيارات المتكررة بين الجانبين توجهًا تركيًا لتعميق وجودها العسكري من خلال توطيد التعاون الدفاعي. الاجتماعات المستمرة مع المسؤولين السعوديين في أنقرة والرياض تعكس خطة تركية متكاملة لاستثمار هذا التعاون كوسيلة لتحقيق أهدافها الإقليمية.
تحليل الأهداف التركية
يرى محللون أن تركيا تسعى من خلال التعاون الدفاعي مع المملكة إلى وضع أساس لوجود عسكري دائم في الأراضي السعودية. تحقيق هذا الهدف سيتيح لأنقرة تعزيز نفوذها في منطقة الخليج، ما يعكس طموحها الأوسع لاستعادة الهيمنة الإقليمية التي كانت تتمتع بها خلال الحقبة العثمانية.
هذا الطموح التركي لا يمكن فصله عن استراتيجية أنقرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تعتمد على إنشاء قواعد عسكرية وإبرام شراكات استراتيجية مع دول المنطقة. من العراق وسوريا إلى ليبيا وقطر، تسعى تركيا إلى فرض نفسها كقوة عسكرية وسياسية مهيمنة، وتعاونها مع السعودية قد يكون جزءًا من هذا المشروع الأكبر.
مخاطر القواعد العسكرية التركية على الأمن القومي السعودي
رغم الفوائد الاقتصادية والعسكرية التي قد تحققها المملكة من تعاونها مع تركيا، إلا أن وجود قاعدة عسكرية تركية على أراضيها قد يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي السعودي. تركيا، التي تُعرف بسياساتها الإقليمية المتقلبة، قد تستغل هذا الوجود للضغط على المملكة في ملفات سياسية أو عسكرية مستقبلية.
كما أن التواجد العسكري التركي في السعودية قد يثير حفيظة قوى إقليمية أخرى، مثل إيران، التي قد تعتبر هذا الوجود تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية في الخليج. ومن شأن ذلك أن يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، ويخلق بيئة تنافسية قد تؤدي إلى تصعيد التوترات.
هل تسعى تركيا إلى استعادة إرث العثمانيين؟
تاريخيًا، كانت الدولة العثمانية تمتد على مساحات واسعة من العالم العربي، بما في ذلك منطقة الخليج. محاولات تركيا الحديثة لتعزيز نفوذها في المنطقة تُظهر رغبة في استعادة هذا الإرث، وإن كان بشكل مختلف. زرع قواعد عسكرية تركية في السعودية قد يكون خطوة حاسمة نحو تحقيق هذا الهدف، لا سيما أن أنقرة تعمل بشكل ممنهج على توسيع وجودها العسكري في دول الشرق الأوسط.
ماذا يحمل المستقبل؟
يبقى التساؤل الأكبر: هل ستسمح السعودية بإقامة قواعد عسكرية تركية على أراضيها؟ الإجابة تعتمد على التوازن الدقيق بين مصالح المملكة في تعزيز قدراتها الدفاعية، وضرورة الحفاظ على سيادتها وأمنها القومي.
ومع استمرار الاجتماعات والزيارات الثنائية، تحتاج الرياض إلى دراسة دقيقة للنتائج المحتملة لهذا التعاون، مع الحرص على ألا يتحول إلى أداة لزرع النفوذ التركي داخل المملكة.
الخاتمة
إن العلاقات السعودية التركية تحمل في طياتها الكثير من الفرص والمخاطر. وبينما تسعى أنقرة إلى تعميق تعاونها مع الرياض، تظل التساؤلات حول أهدافها الحقيقية قائمة. هل ستنجح تركيا في زرع قواعد عسكرية داخل السعودية، أم ستتمكن المملكة من الحفاظ على سيادتها مع الاستفادة من الشراكة الاستراتيجية؟ الأيام القادمة ستكشف الإجابة.