شاءت الظروف الطيبة أن أشارك خلال الفترة القليلة الماضية فى ثلاث مناسبات علمية، اختصت جميعها بدراسة التراث القبطى؛ جاءت المناسبة الأولى تحت عنوان «أطروحات مُضيئة فى الدراسات القبطية فى الجامعات المصرية»، وحملت شعار «القبطيات تمر من هنا»، حيث يعرض الباحثون رسائل الماجستير والدكتوراه التى أنجزوها فى عدد من المعاهد والكليات بالجامعات المصرية خلال عام مضى، فى مختلف مجالات العلم والمعرفة، فى الفن والتاريخ والاجتماع والآثار والعمارة واللغة القبطية، ولعل أهم ما يُميز هذا الملتقى العلمى، الذى يقوم بتنسيقه الزميل العزيز نبيل فاروق، هو أنه بمثابة فرصة جيدة لتبادل المعارف والخبرات وتحقيق التواصل بين الباحثين بعضهم بعضًا، ويعود الفضل فى تنظيم هذا الملتقى العلمى واستضافته لجمعية الآثار القبطية التى يعود تأسيسها إلى عام 1934م، ويُذكر أن للجمعية مجلة علمية تنشر بحوثًا رصينة، كما أن بها مكتبة مُتميزة تتيح خدماتها مجانًا، وقد استقبل قداسة البابا تواضروس الثانى الباحثين فى ختام الملتقى.
وتمثلت المناسبة الثانية فى الاحتفال بمرور سبعين عامًا على تأسيس معهد الدراسات القبطية (1954-2024م)، بحضور البابا تواضروس وعدد من الآباء المطارنة والأساقفة والكهنة وعميد المعهد وأساتذته وبعض الوزراء والشخصيات العامة، بالإضافة إلى عدد كبير من خريجى المعهد وطلابه، وهو معهد علمى عريق، ويعود الفضل فى تأسيسه خلال خمسينيات القرن العشرين إلى عدد من كبار الباحثين والأساتذة تقدمهم آنذاك أستاذ التاريخ المعروف الدكتور عزيز سوريال عطية (1898-1988م)، الذى أشرف فيما بعد على تحرير الموسوعة القبطية، التى صدرت باللغة الإنجليزية فى نيويورك عام 1991م، ويشهد المعهد حاليًا الكثير من مشاهد التطوير والاهتمام والرعاية.
ثم جاءت المناسبة الثالثة وكانت احتفالًا بتخريج الدفعتين الثانية والثالثة من معهد التاريخ الكنسى بالمعادى، بحضور البابا تواضروس ونيافة الأنبا دانيال مطران المعادى وسكرتير المجمع المقدس، والدكتور سينوت شنودة مدير المعهد، وعدد من الكُتّاب والباحثين.
وتعقيبًا على هذه المناسبات الثلاث أطرح هنا بعض الرؤى والأفكار، أولًا: يُمثل التراث القبطى فى مختلف مجالاته تراثًا ومِلكًا لكل المصريين، فهو لا يخص المواطنين الأقباط أو المسيحيين وحدهم حسبما يظن البعض، حيث تُمثل الحضارة القبطية أحد أضلاع الحضارة المصرية، التى تفاعلت مع غيرها من الحضارات التى نبتت على أرض مصر، ومن هنا فإنه يبحث فى هذا التراث مسلمون ومسيحيون وغيرهم، ويبحث فيه أيضًا مصريون وغير مصريين.
ثانيًا: تأتى الدراسات القبطية فى سياق وطنى، فى إطار حركة المجتمع المصرى ككل، وليس بمعزل عنه، حيث تظل مصر وعاءً لاندماج وتفاعل عدد من الحضارات التى انصهرت معًا وأنتجت لنا الشخصية المصرية الحديثة فى بعديها المادى والأدبى.
ثالثًا: إذا كان الاهتمام بالقبطيات «Coptology» قد بدأ فى أوروبا، منذ عدة قرون، فقد آن الآوان لمزيد من اهتمام الباحثين المصريين بهذا العلم وهذا التراث فى المعاهد والجامعات والمراكز العلمية، دون حرج ودون حساسية.
رابعًا: من المُلاحظ أنه ظهرت خلال السنوات الماضية عدة معاهد ومراكز بحثية تختص بالتراث القبطى، مثل كرسي الدراسات القبطية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (2002م) ومركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية (2013م) ومعهد البحوث والدراسات القبطية بجامعة الإسكندرية (2019م).. ومن هنا فإنه تبرز أهمية عقد الشراكات والتعاون والتشبيك بين المعاهد العلمية التى تهتم بهذا التراث، على مستوى الجامعات المصرية والأجنبية، وكذلك المؤسسات والجمعيات الثقافية، من باب التنسيق والاستفادة من مختلف الإمكانيات، فى تنفيذ البحوث الجديدة التى تُمثل إضافة علمية ومعرفية، وتنظيم الندوات وورش العمل والمؤتمرات.
خامسًا: ثمة حاجة أيضًا إلى إعداد أجندة بحثية، تنطلق من رؤية علمية، يمكن من خلالها رصد ما تم إنجازه فى هذا المجال أولًا بأول، وقراءة هذا الإنتاج قراءة نقدية، والإشارة إلى الموضوعات البحثية التى تحتاج إلى دراسة وبحث.
ولعل هذا الاهتمام يعكس حالة التداخل والتفاعل والتسامح بين التراث القبطى وغيره، مثل التراث العربى والإسلامى، وأضرب هنا مثلًا بواجهة المتحف القبطى بمصر القديمة، الذى تم افتتاحه عام 1910م، ويضم مُقتنيات متنوعة، حيث جاءت واجهته على طراز معمارى استعان مبدعه بتصميم واجهة جامع الأقمر بشارع المعز لدين الله الفاطمى، الذى ترجع أصوله إلى عام 1125م، وهو أول مسجد فى القاهرة له واجهة مزخرفة، كما أنه الأول الذى وُضع له تصميم يتناسب مع تصميم الشارع، ويعنى اسم المسجد باللغة العربية «المُضاء بالقمر»، وهو يشير إلى الطريقة التى تتلألأ بها جدرانه تحت ضوء القمر. ويبقى الوطن مصر وطنًا للكل يحتضن الجميع.