مرت البشرية بمراحل تطور هائلة شملت جميع نواحي الحياة، بدءًا من أبسط احتياجات الإنسان كالغذاء وطرق طهيه، إلى أعقد إنجازاته في بناء البيوت وتشييد العمارة. ومع مرور الزمن، لم تقتصر هذه القفزات النوعية على المجال المادي فقط، بل امتدت إلى العلوم والمعارف الإنسانية. ومن بين هذه العلوم التي رافقت تطور البشرية منذ بداياتها كان الطب، الذي تطور من ممارسات بسيطة مستوحاة من الطبيعة إلى علم دقيق قائم على التجربة والمنهج العلمي الحديث.
بدايات الطب: ملاحظات الإنسان الأول
في أزمنة سحيقة، بدأ الإنسان بملاحظة العالم من حوله، حيث اكتشف حاجته للطبيعة ليستمد منها غذاءه ودواءه. بدأ بالتفرقة بين النباتات التي تصلح للغذاء وتلك التي تحمل خصائص علاجية. كما لاحظ تصرفات الحيوانات المستأنسة، التي كانت تتجه أحيانًا إلى تناول أعشاب بعينها عند مرضها، فتعافت بعد ذلك. كانت هذه المشاهدات البسيطة بمثابة شرارة انطلاق علوم الطب الأولى، حيث بدأ الإنسان في اختبار النباتات المختلفة لعلاج الأمراض.
ومع مرور الوقت، تراكمت هذه التجارب لتتحول إلى معارف متوارثة، انتقلت من جيل إلى آخر، وشكلت البذور الأولى لما نسميه اليوم الطب التقليدي. ومع ذلك، ظل هذا الطب محدودًا بحدود الملاحظة والتجربة البسيطة، دون وجود إطار علمي متكامل.
الطب بين الإشعاع والتكنولوجيا الحديثة
مع دخول البشرية عصر الثورة الصناعية والعلمية، تغير وجه الطب بشكل جذري. فالقرن العشرون تحديدًا شهد تحولات علمية غير مسبوقة انعكست على جميع المجالات، بما فيها الطب. فعلى سبيل المثال، ظهرت تقنية الرادار التي كانت مخصصة في البداية للاستخدامات العسكرية، لكنها أصبحت لاحقًا أساسًا لتطوير أجهزة السونار والأشعة التلفزيونية.
ومن ناحية أخرى، أدت اكتشافات الذرة إلى تطورات مذهلة في علوم الطب. ورغم أن الإشعاعات النووية كانت في البداية سلاحًا مدمرًا، إلا أن الأطباء والعلماء تمكنوا من تسخيرها لخدمة الإنسانية. هكذا وُلدت تقنيات مثل أشعة إكس التي أحدثت ثورة في تشخيص الأمراض، بالإضافة إلى تقنيات المسح الذري والعلاج الإشعاعي التي تستخدم الآن لعلاج الأورام.
الطب والصيدلة: رحلة الاكتشاف والتطوير
لم يقتصر التطور الطبي على الأجهزة والتقنيات فقط، بل شمل أيضًا علم الصيدلة. في الماضي، كان الناس يستخدمون النباتات بصورتها الخام لعلاج الأمراض، ولكن مع تقدم الكيمياء الصيدلانية، تمكن العلماء من استخلاص المواد الفعالة من النباتات وتحويلها إلى أدوية سهلة الاستخدام.
لم تتوقف هذه الجهود عند الاستخلاص الطبيعي فقط، بل امتدت إلى تصنيع المواد الفعالة كيميائيًا وبيولوجيًا، مما فتح آفاقًا واسعة لعلاج أمراض كانت تعتبر مستعصية. ولم تكن هذه الإنجازات وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة سنوات طويلة من البحث العلمي والتجارب المتواصلة، التي أثمرت عن أدوية أكثر فعالية وأمانًا.
من الجينات إلى زراعة الأنسجة
شهدت العقود الأخيرة تطورًا مذهلًا في الطب الحديث، حيث انتقل من علاج الأمراض إلى محاولة الوقاية منها على المستوى الجيني. أصبح العلماء قادرين على فك رموز الشريط الوراثي للإنسان، مما أتاح لهم التوصل إلى علاجات قائمة على التعديل الجيني.
بالإضافة إلى ذلك، ظهر مجال زراعة الأنسجة الذي يفتح الباب لعلاج أمراض مستعصية مثل الفشل العضوي. هذه الإنجازات، التي قد تبدو خيالية للبعض، هي نتاج جهود علمية متراكمة، تعكس إبداع البشرية وإصرارها على التغلب على التحديات الصحية.
التطور العلمي: بين الأمس واليوم
لكن على الرغم من كل هذه القفزات العلمية، لم تكن المنطقة العربية تسير على نفس الوتيرة. فبينما كانت أوروبا تخطو خطوات سريعة نحو النهضة العلمية، فرضت على منطقتنا عتمة علمية استمرت لأكثر من أربعة قرون. خلال هذه الفترة، كانت بلادنا تعاني من الركود والانعزال عن العالم المتقدم.
ومع ذلك، كانت مصر من بين الدول القليلة التي أدركت أهمية اللحاق بالركب العلمي. بدأت بإرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا لاستقاء العلوم والمعارف الحديثة. ومع عودة هذه البعثات، شرعت مصر في بناء مؤسسات تعليمية حديثة، من بينها مدرسة الطب التي كانت نواة للجامعة الأهلية (جامعة فؤاد الأول)، التي تُعرف اليوم بجامعة القاهرة.
نهضة مصر الطبية
بفضل هذه الجهود، استطاعت مصر أن تلحق بركب التطور الطبي، وتأسست فيها مدارس طبية ومراكز بحثية ساهمت في تعزيز مكانتها العلمية. ورغم أننا لم نصل إلى مستوى الغرب بالكامل، إلا أننا اقتربنا كثيرًا وأصبحنا قادرين على المنافسة في العديد من المجالات الطبية.
أدعياء العلم والعودة إلى الخلف
ورغم كل هذا التطور، ظهر من بيننا من يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. هؤلاء الأدعياء، الذين لا يمتلكون أي خبرة طبية حقيقية، تفرغوا للترويج لممارسات قديمة مثل طب الأعشاب، الذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين.
لم يكتفوا بذلك، بل حاولوا ربط هذه الممارسات بالدين، مدعين أن الحجامة وكؤوس النار هي “سنة نبوية”. هذا الادعاء، الذي لا أساس له من الصحة، حول هذه الممارسات إلى تجارة رابحة تُروج لها قنوات إعلامية وأبواق معروفة الأهداف.
الضحك على الذقون
استغل هؤلاء الأدعياء سذاجة البسطاء، فأوهموهم بأن هذه العلاجات القديمة هي الحل السحري لجميع أمراضهم. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن هذه الممارسات لم تؤدِ إلا إلى تفاقم الحالات المرضية، بل وصل الأمر إلى إزهاق أرواح بسبب الخرافات.
خاتمة
الحديث عن الطب القديم وأدعياء العلم موضوع واسع يحتاج إلى مزيد من التفصيل. فهو لا يقتصر على الجانب الطبي فقط، بل يعكس صراعًا بين العلم الحقيقي والخرافات، وبين التقدم والتراجع. ومهما حاول هؤلاء الأدعياء إعاقة مسيرة العلم، فإن المستقبل سيظل دائمًا في صف التطور والمعرفة.
د. محمود عبد الغني