بقلم: حمدى رزق
وهل كان لشهر “ديسمبر” الحظوة بين شهور العام، شهر محظوظ، ولدت فيه كوكب الشرق “أم كلثوم”، ولدت في ٣١ ديسمبر عام ١٨٩٨ م، يقينا شهر “ديسمبر” يته فخرا بميلاد أم كلثوم..
مصادفة قدرية احتفالية رأس السنة من كل عام، تستبطن احتفالا بميلاد “كوكب الشرق”، يغيب الجسد وتبقى روح أم كلثوم تسري فينا، معلوم حديث الروح للأرواح يسري، وتدركه القلوب بلا عناء.. (من كلمات حديث الروح غناء أم كلثوم انتاج ١٩٦٧، من ألحان رياض السنباطى، من كلمات محمد اقبال، ترجمها من الأردوية الصاوى شعلان).
**
لفتتي خبر قديم وكأنه جديد،
الاتحاد الدولى للفلك قبل تسعة أعوام في ٣ من يوليو ٢٠١٥، قرر إطلاق اسم سيدة الغناء العربى “أم كلثوم” على كوكب “عطارد” تخليداً لذكراها، ليس تعطفاً، ولكن نتيجة المسابقة الدولية التى أسفرت عن فوز خمسة أسماء عالمية من بينها اسم كوكب الشرق لإطلاقها على فوهات بركانية ونيزكية موجودة على سطح هذا الكوكب الفريد، مما يعد تخليداً لاسم مصر إلى الأبد فى الفضاء.
القصة، قصة الأمس يرويها الدكتور “أشرف لطيف تادرس”، رئيس قسم الفلك بالمعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، إن فريق التواصل الاجتماعى والتوعية الإعلامية لرحلة “ماسنجر”، أعلن عن هذه المسابقة فى شهر يناير ٢٠١٥ فى مناسبة انتهاء مهمة عمل تلك المركبة الفضائية التى تحطمت فوق سطح كوكب عطارد فى ٣٠ أبريل من العام نفسه، محدثة فجوة قطرها ١٦ متراً عند اصطدامها بسطحه، بعدما التقطت آلاف الصور لهذا الكوكب الأقرب من الشمس.
وأشار إلى أن اختيار اسم “أم كلثوم” جاء بناء على ترشيح ستة أشخاص حول العالم من السعودية وسويسرا وأربعة من الولايات المتحدة الأمريكية من بينهم طفل مصرى مغترب هو “يحيى حسونة” بالمرحلة الابتدائية وقتئذ، نجل الدكتور خالد محمد حسونة المدير المساعد لإدارة البحوث والتعليم والتنمية الدولية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة فرجينيا، والمقيم بالولايات المتحدة، مشيداً بهذا النموذج الرائع للمصريين بالخارج.
وأوضح أن الفائزين الخمسة هم “أم كلثوم” المصرية، والعازف الإيرلندى “تورلو أو كارولان”، والمصور الفوتوغرافى الأمريكى “يوسف كرش”، والكاتبة الشاعرة السومارية “انهدوانا”، والرسام المكسيكى “ريفيرا”، لافتاً إلى أن شروط المسابقة تمثلت فى أن يكون المرشح فناناً أو موسيقياً أو كاتباً مشهوراً لمدة تزيد على خمسين عاما، وأن يكون قد توفى منذ ثلاث سنوات على الأقل.
معلوم أن المركبة “ماسنجر” التى تزن ما يزيد على نصف طن، تم إطلاقها فى ٣ أغسطس عام ٢٠٠٤ ، ووصلت إلى كوكب عطارد فى ١٨ مارس عام ٢٠١١ ، حيث استغرقت الرحلة نحو سبعة أعوام قطعت خلالها مسافة ٨ مليارات كيلومتر، والتقطت عدة آلاف من الصور التفصيلية لهذا الكوكب مما ساعد كثيرا فى تفسير الحقائق العلمية المتعلقة بهذا الكوكب.
**
نحتاج إلى “ماسنجر” أرضى ليفسر لنا سر كوكب الشرق، الخلود الذى يصاحب صوتها، والألق الذى يرافق طلتها، والرقى الذى يميز كلماتها، والشجن الذى يؤطر ألحانها، والعشق الذى يستولى على أفئدة، سمعت، وأحبت، وعشقت، وبكت على الأطلال، وهى تشدو أين منى مجلس أنت به.. فتنةٌ تمت سناء وسنى
وأنا حبٌ وقلبٌ هائمُ.. وخيالٌ حائرٌ منك دنا.
فى منوف بلدتنا الطيبة التى تغتسل من همومها فى البحر الفرعونى، كانت على موعد شهرى مع كوكب الشرق، كانت جدتى تهم من الفجرية، تسبق العصافير تزقزق فى وسط الدار، تعجن وتخبز وتكنس وتهيئ المقام للرجال يهلون علينا فى غبطة وسرور، وكأنهم إلى عرس، يجلسون فى بهجة، ويتحرقون من الشوق إلى صوت الست، وما أن تدق دقات رفع الستار، ويتذبذب الإرسال الذى يصدر من راديو لمبات فى علية خشبية، حتى يصفقون وكأنهم فى دار سينما تهل عليهم سيدة الغناء العربى.
يفضل نفر منهم الجلوس قرفصاء، وينتحى آخرون جانباً يتنصتون نحنحات كوكب الشرق قبل أن تشرخ أجواز الفضاء بصوت رخيم، يدخن جدى عبد اللطيف سيجارة “فلوريدا” ساخنة، يعمر الطاسة لاستقبال القصيدة، كانت اللغة الصعبة تسرى من القلب إلى القلب، تشدو:
يا فؤادى لا تسل أين الهوى.. كان صرحاً من خيالٍ فهوى
اسقنى واشرب على أطلاله.. واروِ عنى طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً.. وحديثاً من أحاديث الجوى
وعندما تصل إلى سماء التحليق وتغرد بأبيات من عسل مصفى لذة للسامعين:
لست أنساك وقد أغريتنى.. بفمٍ عذب المناداة رقيقْ
ويدٍ تمتد نحوى كيدٍ.. من خلال الموج مدت لغريق ْ
وبريقاً يظمأ السارى له.. أين فى عينيك ذياك البريق
يلقى جدى بطاقيته البيضاء على الحصير شجناً، كانت له من وسائل التعبير عن عشق أم كلثوم حركات محفوظة، انظر ورأسه يتمايل كمن مسه الذكر فطفق منتشياً:
يا حبيباً زرت يوماً أيكه.. طائر الشوق أغنى ألمى
لك إبطاء المدل المنعم.. وتجنى القادر المحتكمٍ
وحنينى لك يكوى أضلعى.. والثوانى جمرات فى دمى….
يشعل سيجارة جديدة، ويعزم من علبته الشعبية على الحضور، تدور “كبابى” (جمع كوباية) الشاى الأسود المحلى بالسكر، كان السكر أقماع (جمع قمع) يحلو لجدى كسرها بكعب الكوباية، من طقوس الجمع الشاى الأسود، وعندما تستجيب كوكب الشرق لرجوات الحضور، وتعيد الكوبليه، كان جدى ينعدل مزاجه ويروق، ويدندن فى نشوة الوجد:
أين من عينى حبيبُ ساحرٌ.. فى نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشى ملكاً.. ظالم الحسن شهى الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى.. ساهم الطرف كأحلام المساء
الله يا ست، يعمر بيتك، تعاجله والحضور بما يشرح صدره:
هل رأى الحب سكارى مثلنا.. كم بنينا من خيالٍ حولنا
ومشينا فى طريق مقمرٍ.. تثب الفرحة فيه قبلنا
وضحكنا ضحك طفلين معاً.. وعدوّنا فسبقنا ظلنا
**
بالمناسبة جدى كان أمياً ولكنه سميع قديم، لم ير كوكب الأرض مسكوناً بحب أم كلثوم مثله، رحمة الله عليه، وعلى الست ومن سمعها على الأرض قبل أن يسمع بها كوكب عطارد، أخشى أن سكان الكوكب الغامض من نفس عينة جدى يعشقون أم كلثوم.