في تطور سياسي وأيديولوجي لافت أثار الكثير من الجدل والاهتمام الإقليمي والدولي، سارعت الجماعات الإسلامية والمتشددة حول العالم إلى تهنئة المتمردين السوريين، وعلى رأسهم هيئة تحرير الشام، على ما وصفته تلك الجماعات بـ”انتصارهم” على نظام بشار الأسد. جاء هذا الترحيب الواسع على الرغم من الخلافات التاريخية العميقة بين الجماعات الإسلامية، سواء من حيث الأيديولوجية أو الرعاة أو المصالح السياسية. إن هذا الدعم المفاجئ من قبل جماعات متباينة أيديولوجيًا وطائفيًا يؤكد تحوّلًا كبيرًا في استراتيجيات الإسلاميين نحو مزج الخطاب الوطني مع المشاريع الدينية لتحقيق غاياتهم السياسية بعيدة المدى.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة “الغارديان”، فإن هذا التحوّل يُعتبر بمثابة “تكتيك جديد”، حيث باتت الجماعات الإسلامية تستخدم الغطاء الوطني للظهور بمظهر القوى المحررة والمدافعة عن الشعب، بهدف اكتساب الشرعية المحلية والدولية في المرحلة الأولى، بينما يتم تنفيذ الأجندات الدينية والسياسية الخاصة بها في مرحلة لاحقة.
هذا التحوّل التكتيكي الذي تشهده الساحة السورية يحمل دلالات تتجاوز حدود سوريا، إذ أصبح بمثابة “نموذج” قد تلجأ إليه جماعات إسلامية أخرى حول العالم، خاصة تلك التي تسعى إلى تحقيق نفوذ سياسي محلي أو إقليمي، لكنها تتجنّب مواجهة مباشرة مع القوى الكبرى أو الاعتماد على أيديولوجيات قد تبدو منفّرة للمجتمع الدولي.
في إطار الترحيب الواسع الذي حظيت به هيئة تحرير الشام، تصدّرت جماعة الإخوان المسلمين، بمختلف فروعها في المنطقة، قائمة الجماعات التي سارعت إلى الإشادة بما وصفته بـ”إنجاز الشعب السوري في الإطاحة بنظام الأسد”، في إشارة واضحة إلى التفاعل الإيجابي مع صعود الهيئة باعتبارها الفصيل الأكثر سيطرة ونفوذًا في المشهد السوري الحالي.
ففي بيانات رسمية أصدرتها عدة فروع لجماعة الإخوان، عبّرت الجماعة عن ابتهاجها بما اعتبرته “نصرًا للشعب السوري المسلم”، مع تجاهل الإشارة إلى الطبيعة المتشددة لهيئة تحرير الشام. لكن اللافت في هذه البيانات هو التلميح إلى أن هيئة تحرير الشام استطاعت تحقيق ما عجزت عنه الكثير من الجماعات الإسلامية الأخرى، وهو بناء نموذج للحكم يدمج بين “المشروع الإسلامي القومي” والخطاب الوطني، بما يضمن قبولًا أوسع من الشعب السوري أولًا، ثم من المحيط الإقليمي لاحقًا.
وفي خطوة مثيرة للجدل، نشر أحد مسؤولي جماعة الإخوان في الأردن تهنئة عبر موقع “فيسبوك” أشاد فيها بتكتيكات هيئة تحرير الشام ونجاحاتها على عدة أصعدة، أبرزها الاستخبارات، التكنولوجيا، الإعلام، وإدارة السجناء. رغم حذف المنشور لاحقًا، إلا أن الرسالة كانت واضحة، حيث اعتبرت الجماعة أن الهيئة تمثّل نموذجًا يُحتذى به، و**“درسًا ينبغي دراسته”** من قِبل الجماعات الأخرى.
“تنظر جماعة الإخوان المسلمين إلى هيئة تحرير الشام باعتبارها المنقذ للمشروع الإسلامي القومي. إن هذا النموذج، رغم ما قد يواجهه من تحديات، يُمثّل فرصة لإعادة صياغة المشهد السياسي والديني في المنطقة وفق رؤية أكثر واقعية وتكاملية”.
تشير التحليلات السياسية إلى أن هيئة تحرير الشام قد نجحت في تحقيق ما لم تستطع تحقيقه فصائل إسلامية أخرى، وهو دمج الأيديولوجية الدينية الصارمة مع المشروع الوطني الذي يرفع شعار “تحرير الشعب السوري”. هذا المزيج الفريد مكّن الجماعة من اكتساب دعم داخلي وخارجي على حد سواء، حيث أصبحت تُصوّر نفسها كقوة وطنية “محررة” تدافع عن السوريين ضد النظام المستبد.
التحليل الأعمق لهذا التكتيك الجديد يكشف أن الإسلاميين باتوا يدركون أهمية الخطاب الوطني كغطاء مرحلي لتحقيق أهدافهم الأيديولوجية والسياسية. إن هذه الاستراتيجية تُعد نقلة نوعية في العمل الإسلامي، حيث يتم تأجيل طرح المشاريع الدينية الصارمة إلى ما بعد تثبيت أقدامهم في السلطة، مما يضمن لهم قبولًا أوسع من الشعوب التي تعاني من ويلات الحرب والفقر والاضطهاد.
ويرى مراقبون أن التركيز على تهنئة “الشعب السوري” بدلًا من تهنئة هيئة تحرير الشام مباشرةً هو تكتيك مدروس، إذ يسمح هذا الخطاب بتجاوز الخلافات القديمة بين الجماعات الإسلامية المختلفة، ويحقّق نوعًا من الوحدة المؤقتة بين القوى التي طالما تنافست على النفوذ في المنطقة.
يؤكد خبراء أن النجاح الذي حققته هيئة تحرير الشام يُعد مؤشرًا على تحوّل جذري في أولويات الجماعات الإسلامية المسلحة في المنطقة. فعلى عكس ما كان سائدًا خلال العقدين الماضيين، حيث كانت الجماعات تركز على الجهاد العابر للحدود ومواجهة “الأعداء البعيدين” في الغرب، أصبحت الأولوية الآن للقضايا المحلية التي تتعلق بإدارة الأراضي المحررة، وكسب دعم السكان، وبناء أنظمة حكم بديلة عن الأنظمة القائمة.
هذا التحوّل التكتيكي ساهم بشكل كبير في زيادة نفوذ الجماعة في سوريا، وأعاد رسم ملامح المشهد السياسي والإسلامي في المنطقة. إن تركيز هيئة تحرير الشام على القضايا المحلية بدلًا من الحملات الأيديولوجية العابرة للحدود يُعتبر خطوة براغماتية تُتيح لها الحفاظ على قوتها وتوسيع نفوذها تدريجيًا، دون الدخول في مواجهات خاسرة مع القوى الإقليمية والدولية.
في ظل هذه التطورات المتسارعة، يظل السؤال الأبرز: هل ستنجح هيئة تحرير الشام في الحفاظ على ما حققته، أم أنها ستواجه مصير الجماعات الإسلامية السابقة التي فشلت في تحقيق توازن بين طموحاتها الأيديولوجية والواقع السياسي المعقّد؟
إن تهاني الجماعات الإسلامية المختلفة، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، تعكس بوضوح أن صعود هيئة تحرير الشام يُعتبر “نموذجًا” يُمكن البناء عليه في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، خاصة تلك التي تشهد صراعات مشابهة. لكن هذا “النموذج” يثير في الوقت ذاته الكثير من المخاوف، حيث يرى البعض أنه قد يكون مقدمة لفرض أجندات متشددة على الشعوب التي عانت طويلًا من ويلات الحروب والأنظمة القمعية.
ويبقى المشهد السوري، بكل ما يحمله من تناقضات وتحوّلات، محط أنظار العالم، حيث إن صعود هيئة تحرير الشام قد يُعيد رسم الخارطة السياسية والأيديولوجية في الشرق الأوسط لعقود مقبلة.