في ظل التغيرات الإقليمية الكبرى والاضطرابات السياسية التي تعصف بالعالم العربي، تتجلى بوضوح الأطماع التركية التي تتخذ من أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين غطاءً لتحقيق طموحاتها التوسعية، في مشهد يعيد للأذهان التاريخ العثماني وسياسات الهيمنة تحت غطاء “الحقوق التاريخية”.
لم يمضِ وقت طويل على شكوى العرب من الاحتلال الفارسي الإيراني الشيعي الذي سيطر على أربع عواصم عربية – بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء – حتى ظهر خطر تركي عثماني جديد يزحف بشراهة نحو العالم العربي، ليُسيطر فعليًا على عاصمتين عربيتين: طرابلس في ليبيا ودمشق في سوريا، إلى جانب بسط نفوذه على أجزاء واسعة من الأراضي العراقية. وبينما يتابع العالم مشهد الصراعات المستعرة، تكشف التحركات التركية أنها ليست مجرد سياسات ظرفية، بل هي تنفيذ مُحكم لخطة توسعية قديمة تستند إلى طموحات تاريخية واستغلال أزمات المنطقة لتحقيق أهدافها.
تركيا: أطماع تحت عباءة التاريخ والأيديولوجيا
تركيا اليوم تعتمد على خطاب مزدوج: فتارة تُقدّم نفسها حاميًا للتراث الإسلامي، وتارة أخرى تُبرر تدخلاتها في الدول العربية بذريعة الحقوق التاريخية التي تدّعيها، مثلما فعلت في شمال العراق، وشمال سوريا، والغرب الليبي. هذه التبريرات تشكل خطرًا أشد من الوصاية الإيرانية، لأن طهران تعتمد على أدوات نفوذ طائفية تخترق بها المجتمعات من الداخل، بينما تركيا تتبنى نهجًا توسعيًا ماديًا، حيث تحتل وتضم الأراضي بشكل فعلي تحت مظلة التدخل العسكري المباشر.
إن سيطرة تركيا على طرابلس لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة تحالفات مع تيارات الإسلام السياسي المتمثلة بجماعة الإخوان المسلمين، والتي اتخذتها أنقرة أداة لاختراق المجتمعات العربية وتمهيد الأرض لبسط سيطرتها على القرار السياسي والاقتصادي، ليُصبح المشهد في ليبيا نموذجًا صارخًا لمطامع تركيا التوسعية. ولا يقتصر ذلك على ليبيا وحدها، ففي سوريا، تتحكم تركيا بمناطق واسعة شمال البلاد، تحت مبررات “الأمن القومي” وحماية حدودها، لكن الواقع يُظهر أن هذه السياسات تهدف إلى فرض سيطرة دائمة وخلق مناطق نفوذ تابعة لها، تُعيد عبرها أمجاد الإمبراطورية العثمانية، التي تُلهم السياسات التركية الحالية.
العراق: بوابة مفتوحة للنفوذ التركي
العراق هو الآخر لم يسلم من التمدد التركي، حيث تُصر أنقرة على تنفيذ عمليات عسكرية متكررة داخل الأراضي العراقية، خاصة في المناطق الشمالية، بحجة مطاردة المتمردين الأكراد. هذه العمليات لم تتوقف عند حدود الأمن القومي، بل أصبحت امتدادًا لسياسة ممنهجة هدفها السيطرة على مناطق استراتيجية وموارد اقتصادية هائلة، سواء عبر التدخل العسكري أو بناء القواعد العسكرية التركية.
تركيا لا تُخفي نواياها التوسعية؛ فالقيادة التركية تتحدث علنًا عن اتفاقية “الميثاق الوطني” لعام 1920، التي تعتبر مدن الموصل وكركوك جزءًا من الدولة التركية، وتُلمّح إلى أحقيتها التاريخية في هذه الأراضي، مما يُشكّل تهديدًا صريحًا للسيادة العراقية. وبينما تُعاني العراق من أزمات سياسية وأمنية، تجد أنقرة الفرصة سانحة لفرض أمر واقع جديد، في مشهد يُعيد للأذهان أطماعًا لم تتوقف منذ قرن من الزمان.
الإخوان: الحصان التركي لاختراق العواصم
تستخدم تركيا الأيديولوجية الإخوانية كأداة ناعمة لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية في الدول العربية. لقد قدمت جماعة الإخوان نفسها كحليف طبيعي لأنقرة، التي تدعمها بالمال والعتاد وتوفر لها الحماية السياسية والإعلامية، مقابل فتح الأبواب أمام النفوذ التركي في البلدان التي تتمتع فيها الجماعة بقدر من التأثير.
لقد أصبحت ليبيا وسوريا مسرحين رئيسيين لنجاح هذا التحالف؛ ففي طرابلس، دعمت تركيا حكومة الوفاق السابقة المدعومة من الإخوان بالسلاح والمقاتلين، وتمكنت من فرض واقع جديد في البلاد، أعاد رسم خارطة السيطرة فيها لصالح أنقرة. أما في سوريا، فإن دعمها لفصائل مسلحة مرتبطة بالإخوان مكّنها من السيطرة على مناطق استراتيجية شمال البلاد، لتصبح تركيا اللاعب الرئيسي في المعادلة السورية تحت ذرائع مختلفة.
هل يتحرك العرب لمواجهة الخطرين التركي والإيراني؟
يبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع العرب تشكيل تحالف قوي لمواجهة هذين الخطرين؟ في ظل التنافس الإقليمي بين تركيا وإيران، وجد العرب أنفسهم عالقين بين مطرقة التدخل التركي وسندان النفوذ الإيراني، وكلٌّ منهما يسعى لتحقيق أجنداته الخاصة على حساب الأمن العربي.
إن الخطورة تكمن في أن كل طرف يستخدم أدوات مختلفة لإحكام قبضته؛ فإيران تعتمد على القوى الطائفية والميليشيات المسلحة في تحقيق وصايتها السياسية، بينما تركيا تلجأ إلى التدخل العسكري المباشر والتوسع الجغرافي بذريعة الأيديولوجيا والحقوق التاريخية. وبين هذا وذاك، تتراجع سيادة الدول العربية، وتغيب الحلول الجذرية لمواجهة هذه التحديات التي باتت تهدد كيان الأمة العربية بأكملها.
اليوم، أصبحت الحاجة ملحة لتشكيل تحالف عربي قوي وفعّال يستطيع التصدي لهذين الخطرين اللذين يهددان بقاء الدول الوطنية العربية واستقرارها. فالوحدة العربية وتنسيق الجهود بين الدول الرئيسية يُمثل السبيل الوحيد للخروج من نفق التوسع التركي والهيمنة الإيرانية، التي تهدد حاضر الأمة العربية ومستقبلها. إن الفرقة والتشرذم العربي لن تؤدي سوى إلى تسهيل أطماع المتربصين، وتوسيع نفوذهم في المنطقة على حساب الشعوب والأوطان.
إن إدراك خطورة المشهد هو الخطوة الأولى نحو التغيير، فهل سيستفيق العرب قبل فوات الأوان؟ أم أن التاريخ سيعيد نفسه، وتُبتلع العواصم العربية واحدة تلو الأخرى، كما حدث في طرابلس ودمشق؟
التاريخ يسجل، والشعوب لن تنسى…