تواصل تركيا سياساتها التوسعية والعدوانية تجاه الأراضي السورية بشكل ممنهج ومستمر، مُكرّسة واقعًا جديدًا يهدف إلى ترسيخ نفوذها العسكري، الاقتصادي، والسياسي في الشمال السوري. فمنذ عام 2016، شنت تركيا عدة عمليات عسكرية كبرى، أبرزها عملية “درع الفرات” في 2016، وغصن الزيتون في 2018، ونبع السلام في 2019. هذه العمليات لم تكن مجرد توغلات مؤقتة، بل كانت بداية لترسيخ احتلال طويل الأمد للأراضي السورية الشمالية، حيث استخدمت تركيا ذريعة “حماية أمنها القومي” لمحاربة الأكراد، بينما الواقع يكشف عن نوايا توسعية واضحة تهدف إلى فرض سيطرة شاملة.
اليوم، بات الاحتلال التركي واقعًا ملموسًا، إذ تستمر القوات التركية في توسيع نفوذها وفرض هيمنتها على مناطق واسعة من شمال سوريا، وسط صمت دولي وتجاهل لمأساة يعيشها الشعب السوري هناك.
مناطق النفوذ التركي شمال سوريا: احتلال بغطاء محلي
تشير التقارير إلى أن نحو 15% من الأراضي السورية أصبحت خاضعة للنفوذ التركي المباشر وغير المباشر، عبر دعمها لجماعات مسلحة مثل “الجيش الوطني السوري”، والذي يُعتبر امتدادًا للجيش التركي من حيث التمويل والإدارة. وعلى الرغم من ادعاء تركيا بأنها تدعم “الإدارة المحلية” في هذه المناطق، إلا أن الحقائق على الأرض تؤكد أن تلك الجماعات المسلحة لا تُحرك ساكنًا إلا بتوجيهات أنقرة، مما يُفقدها أي استقلالية حقيقية ويجعلها مجرد أدوات لتنفيذ الأجندة التركية.
إن التواجد التركي في شمال سوريا ليس مجرد انتشار عسكري، بل هو محاولة متكاملة لإعادة تشكيل الخارطة السياسية والإدارية لتلك المناطق، إذ تعمل تركيا على توطيد وجودها هناك عبر إنشاء هياكل إدارية واقتصادية تعكس نفوذها وتُطمس الهوية السورية تدريجيًا.
السكان المحليون في تلك المناطق يجدون أنفسهم محاصرين بين خيارين: القبول بالهيمنة التركية أو مواجهة القمع الذي تمارسه الجماعات التابعة لأنقرة. الوضع المأساوي هذا يزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، حيث تتحول هذه المناطق إلى “أراضٍ محتلة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
فرض العملة والنظام المصرفي التركي: الهيمنة الاقتصادية
في إطار سعيها لترسيخ الاحتلال، لجأت تركيا إلى فرض العملة التركية بديلًا عن الليرة السورية في المناطق الخاضعة لنفوذها شمال سوريا. هذا الإجراء يُعتبر أكثر من مجرد تغيير اقتصادي؛ فهو خطوة مدروسة تهدف إلى دمج تلك المناطق اقتصاديًا بالنظام التركي وقطع روابطها مع الدولة السورية.
كما أنشأت تركيا فروعًا للبنوك التركية في تلك المناطق لتقديم خدماتها المصرفية، إلى جانب إدخال النظام البريدي التركي لتسهيل المعاملات المالية والإدارية، مما يُعمّق النفوذ التركي ويُكرس التبعية الاقتصادية للسكان المحليين.
فرض العملة التركية لا يُمثّل فقط مؤشرًا على سيطرة أنقرة الاقتصادية، بل هو أيضًا أداة لفرض واقع جديد يُغيّر هوية هذه المناطق تدريجيًا. السكان المحليون، الذين أُجبروا على التعامل بالليرة التركية، يجدون أنفسهم في وضع اقتصادي هشّ يزيد من تبعيتهم للسياسات التركية. هذا التغيير الاقتصادي ليس معزولًا عن السياق السياسي، بل هو جزء من استراتيجية تركيا لإعادة تشكيل الشمال السوري بما يتماشى مع مصالحها التوسعية.
تدمير البنية التحتية: منهجية لفرض التبعية
إلى جانب فرض السيطرة الاقتصادية، يواصل الجيش التركي عمليات القصف الممنهجة للبنية التحتية، خاصة في مناطق شمال شرق سوريا التي تُعتبر معقلًا للإدارة الذاتية الكردية. هذه الهجمات التي تعتمد على الطائرات الحربية والمسيرات التركية، تُلحق أضرارًا جسيمة بالمنشآت الحيوية، بما في ذلك محطات الطاقة والمرافق الخدمية الأساسية.
الهدف من هذا القصف ليس مجرد ضرب الأكراد أو منعهم من تعزيز وجودهم، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إضعاف أي محاولات محلية للاكتفاء الذاتي أو إنشاء إدارة مستقلة بعيدًا عن الهيمنة التركية. إن تدمير البنية التحتية يُجبر السكان المحليين على البحث عن بدائل خاضعة لتركيا، وبالتالي يُعزز نفوذ أنقرة الاقتصادي والسياسي في تلك المناطق.
دعم الجماعات الجهادية: تأجيج الصراعات الداخلية
في موازاة سياساتها العسكرية والاقتصادية، تُواصل تركيا دعم جماعات مسلحة ذات طابع جهادي ومتطرف لاستخدامها كأداة رئيسية في مواجهة الأكراد. هذه الجماعات تُنفّذ أجندات تركيا بحذافيرها، وتُسهم في تأجيج الصراعات الداخلية بين السوريين، حيث تُحوّل المواجهات إلى صراعات عرقية وطائفية تُعمّق الانقسامات.
دعم هذه الجماعات ليس مجرد تكتيك عسكري، بل هو جزء من استراتيجية تركيا لإضعاف الأطراف السورية المتنازعة، وإبقاء الوضع في حالة من الفوضى تُسهّل لها ترسيخ نفوذها واحتلالها للأراضي السورية. الأكراد، الذين يعتبرون هدفًا رئيسيًا لتركيا، يدفعون ثمن هذه السياسة، حيث يواجهون حربًا مزدوجة من الجيش التركي والجماعات المسلحة التابعة له.
احتلال تحت ستار “الإدارة المحلية”
تُحاول تركيا تقديم سياساتها في شمال سوريا على أنها “إدارة محلية مؤقتة” تهدف إلى تحقيق الاستقرار، بينما الحقيقة أن هذه الإدارة تُنفّذ توجيهات أنقرة وتخدم مصالحها فقط. تركيا تُقيم هياكل إدارية خاضعة لها بالكامل، وتفرض سياساتها على السكان المحليين الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال العسكري والاقتصادي.
إن وصف ما يحدث في شمال سوريا بـ”الاحتلال” ليس مبالغة، بل هو توصيف دقيق لواقع تُمارس فيه تركيا كل أدوات السيطرة والهيمنة لتكريس وجودها. السكان المحليون يعانون من الانتهاكات المستمرة، بما في ذلك التهجير القسري، القمع، والاستيلاء على الأراضي والممتلكات.
الوجه الحقيقي للمشروع التركي: التوسع وإحياء العثمانية
ما يحدث في شمال سوريا اليوم يُظهر بوضوح أن تركيا لا تسعى فقط لحماية حدودها أو محاربة الإرهاب، كما تدّعي، بل تسعى إلى إحياء مشروعها التوسعي الذي يُعيد للأذهان سياسات الدولة العثمانية. فرض العملة التركية، إنشاء بنوك تركية، تدمير البنية التحتية، ودعم الجماعات المسلحة، كلها خطوات تعكس مشروعًا متكاملًا يهدف إلى دمج شمال سوريا في دائرة النفوذ التركي.
ختامًا: مأساة إنسانية تحت الاحتلال التركي
بات شمال سوريا اليوم نموذجًا صارخًا للاحتلال الذي تُمارسه تركيا تحت ذرائع مختلفة. ما بين القصف العسكري، الهيمنة الاقتصادية، ودعم الجماعات المسلحة، يعيش السوريون في تلك المناطق مأساة إنسانية حقيقية، وسط تجاهل وصمت دولي غير مبرر.
إن استمرار الاحتلال التركي للأراضي السورية يُشكّل خرقًا واضحًا للقوانين الدولية وتهديدًا لوحدة سوريا وسيادتها. والسؤال الذي يفرض نفسه: إلى متى سيستمر هذا الاحتلال؟ وهل سيقف المجتمع الدولي يومًا لمواجهة هذا الواقع المفروض بقوة السلاح؟
في ظل هذا المشهد المعقد، يبقى الشعب السوري وحده يدفع الثمن، بينما تُواصل تركيا فرض سياساتها التوسعية دون رادع.