في تطور غير مسبوق شهدته الساحة السورية والإقليمية، أدى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد إلى إزاحة الستار عن واحدة من أخطر وأضخم شبكات تجارة المخدرات في منطقة الشرق الأوسط، وهي تجارة حبوب الكبتاجون التي اعتمد عليها النظام السوري بشكل كبير لتحقيق مكاسب اقتصادية هائلة، وتعويض آثار العقوبات الدولية المفروضة عليه منذ سنوات طويلة.
وتؤكد تقارير دولية، أبرزها ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، أن نظام الأسد كان المحرك الرئيسي لهذه التجارة غير المشروعة، مستغلًا ظروف الحرب الأهلية التي ضربت سوريا منذ عام 2011 لبناء إمبراطورية ضخمة لتصنيع وتهريب الكبتاجون، هذا المخدر الذي أصبح الأكثر انتشارًا في المنطقة خلال العقد الأخير، وجعل من سوريا مركزًا رئيسيًا لإنتاجه وتوزيعه.
شبكة تصنيع ضخمة ومواقع عسكرية
مع سقوط الأسد، ظهرت الحقائق إلى العلن بعد أن اقتحمت قوات المعارضة السورية مواقع ومراكز مرتبطة بالنظام السابق، وتمكنت من الوصول إلى منشآت صناعية ضخمة كانت تُستخدم لإنتاج وتخزين الكبتاجون، بعضها داخل قواعد عسكرية ومرافق حكومية.
ونشرت المعارضة مقاطع مصورة وثّقتها وكالات إعلامية عالمية، منها رويترز و”Channel 4 News”، تُظهر مئات الآلاف من الحبوب المخدرة التي كانت مُخبأة بطرق معقدة، داخل أدوات كهربائية، وفواكه مُصنعة، وفسيفساء مزيفة، ما يعكس حجم التنظيم والدقة التي كانت تُدار بها هذه الشبكة.
من أبرز المواقع التي تم الكشف عنها:
• قاعدة المزة الجوية في دمشق، التي تُعد من أبرز المقرات العسكرية للنظام السابق.
• مصنع تابع لشركة تجارة سيارات في اللاذقية، مسقط رأس عائلة الأسد، حيث وُجدت كميات ضخمة من المخدرات جاهزة للتصدير.
• مصنع سابق لإنتاج رقائق البطاطس في دوما، بالقرب من العاصمة دمشق، يُعتقد أنه كان مرتبطًا بماهر الأسد، شقيق الرئيس السابق.
وأشارت المعارضة إلى أنها قامت بتدمير جزء كبير من الكميات المُخزنة في هذه المواقع، فيما لا تزال كميات أخرى قيد التحقيق والمراجعة.
الكبتاجون.. مصدر الثروة وسط الحرب
تُقدّر القيمة السنوية لتجارة الكبتاجون عالميًا بنحو 10 مليارات دولار، وفق دراسات وتقارير متخصصة، وهو رقم يضاهي حجم تجارة الكوكايين في أوروبا. وقد استفاد النظام السوري من هذه التجارة في تمويل عملياته العسكرية، وتعزيز سلطته السياسية، فضلًا عن مكافأة الموالين له.
وبحسب محللين وخبراء، كانت الفرقة الرابعة المدرعة، بقيادة ماهر الأسد، تُشرف بشكل مباشر على إنتاج الكبتاجون وتهريبه إلى الدول المجاورة، وعلى رأسها دول الخليج العربي، التي تُعد السوق الأكبر لهذا النوع من المخدرات.
وتشير كارولين روز، الباحثة المتخصصة في ملف الكبتاجون، إلى أن النظام السابق كان يدير عمليات إنتاج وتهريب المخدرات بطريقة “ممنهجة ومدروسة”، مُضيفة: “إن ضخامة المنشآت التي كُشف عنها تُظهر حجم الاستثمار في هذه التجارة غير المشروعة، ومدى تغلغلها في أركان النظام السوري، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا”.
حزب الله.. شريك النظام في تجارة الموت
لم يكن النظام السوري وحده المستفيد من تجارة الكبتاجون، فقد لعبت ميليشيا حزب الله اللبناني دورًا رئيسيًا في عمليات التهريب عبر الحدود اللبنانية السورية، حيث ساهمت في تأمين طرق التهريب ومنازل التجار مقابل الحصول على حصة من الأرباح.
وتُشير تقارير أمنية أمريكية وعربية إلى أن حزب الله اعتمد بشكل كبير على عائدات تجارة الكبتاجون لتعزيز موارده المالية، خصوصًا في ظل العقوبات الدولية المفروضة عليه وعلى إيران، الداعم الأساسي له.
ويرى جوزيف ضاهر، الباحث الاقتصادي المتخصص في شؤون حزب الله، أن تجارة الكبتاجون سمحت للحزب بتنويع مصادر دخله، مُضيفًا: “لقد أصبحت تجارة المخدرات جزءًا أساسيًا من استراتيجية الحزب لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية التي يواجهها”.
ويُقدّر خبراء أن حزب الله يدفع رواتب ومخصصات مباشرة لما يقرب من 100 ألف شخص، ويُقدم خدمات اجتماعية وصحية لعشرات الآلاف من أنصاره، مما يجعله أحد أكبر جهات التوظيف في لبنان بعد الدولة اللبنانية نفسها.
تحديات ما بعد سقوط النظام
برغم الضربة القوية التي تلقتها تجارة الكبتاجون مع سقوط النظام السوري، إلا أن التحديات لا تزال قائمة، خصوصًا مع استمرار الطلب المتزايد على المخدرات في منطقة الشرق الأوسط.
ويُحذر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة من أن العراق قد يصبح المركز الجديد لتجارة الكبتاجون، حيث صادرت السلطات العراقية كميات ضخمة من هذه الحبوب في السنوات الأخيرة، وصلت إلى أكثر من 4 أطنان في عام 2023 وحده.
كما برز الأردن ولبنان كمعابر رئيسية لتهريب الكبتاجون إلى دول الخليج العربي، فيما شهدت دول أوروبية مثل إيطاليا وهولندا عمليات ضبط كبيرة لحبوب الكبتاجون المهرّبة، حيث نجحت السلطات الإيطالية في عام 2020 في ضبط شحنة بقيمة مليار دولار كانت في طريقها إلى جنوب أوروبا.
مستقبل تجارة الكبتاجون في ظل التغيرات
يرى الخبراء أن تفكيك إمبراطورية الكبتاجون السورية سيؤدي إلى نقص كبير في إمدادات هذا المخدر، ما سيُجبر المستهلكين على البحث عن بدائل أخرى، مثل “الكريستال ميث”، الذي بدأ ينتشر تدريجيًا في بعض دول المنطقة.
وفي الوقت ذاته، يُحذر المحللون من أن العصابات الإجرامية العاملة في تهريب المخدرات قد تُحوّل أنشطتها إلى دول أخرى، ما يُصعّب من جهود مكافحتها على المدى الطويل.
ختامًا، يُمثل سقوط نظام الأسد نقطة تحول فارقة ليس فقط في المشهد السياسي السوري، بل أيضًا في ملف تجارة المخدرات العالمي، الذي ظل لسنوات طويلة رهينة المصالح السياسية والاقتصادية للقوى الإقليمية. ومع تزايد التحديات الأمنية والاقتصادية، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستتمكن دول المنطقة من القضاء على هذا الوباء الخطير، أم سيعود من بوابة جديدة، وبشكل أكثر تعقيدًا؟