في ظل ما تشهده المنطقة من تدهور واضطرابات، يأتي الموقف المصري كالصوت الوحيد القوي والرافض للممارسات الإسرائيلية التوسعية التي تسعى لفرض سياسة الأمر الواقع على الأراضي المحتلة. وفي البيان الأخير الصادر عن وزارة الخارجية المصرية، أدانت مصر بشكل واضح وصريح قرار الحكومة الإسرائيلية بالتوسع في الاستيطان في الجولان السوري المحتل، واعتبرت هذه الخطوة انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والشرعية الأممية، واعتداءً فجًا على سيادة دولة عربية شقيقة.
ولكن حين ننظر للمشهد بعيون فاحصة، فإن حقيقة ما يحدث في سوريا لا يمكن فصلها عن مخطط متكامل بدأت ملامحه تتضح بمرور السنوات. ففي الوقت الذي يئن فيه الشعب السوري تحت نيران الحرب المدمرة، تبرز تقارير وشهادات تفيد بأن عناصر متطرفة تحت رايات دينية، يُشاع بقوة أنهم خاضعون لأجندات خارجية، تم زرعهم بعناية في قلب الأزمة السورية. هؤلاء العناصر، الذين يُتردد أنهم في الحقيقة امتداد لأجهزة استخباراتية كالموساد الإسرائيلي، نجحوا في الوصول إلى مراكز مؤثرة ضمن الجماعات المسلحة، وحوّلوا الأزمة إلى ساحة مفتوحة لاستنزاف سوريا وجيشها ومقدراتها.
هؤلاء “القادة” المتطرفون لم يوجهوا أسلحتهم أبدًا نحو العدو الإسرائيلي، بل انصب إرهابهم على الشعب السوري ومؤسساته. تحت أعين العالم، تم تدمير الجيش السوري – ذلك الجيش الذي وقف لعقود سدًا منيعًا أمام أطماع إسرائيل – في وقت قياسي، وكأن السيناريو مُعد مسبقًا. في غضون سنوات قليلة، تم حل الجيش السوري وتفكيك قواته البحرية والجوية، واستهداف كل قطعة سلاح تُهدد وجود الاحتلال الإسرائيلي. ستة أيام كانت كفيلة بإنهاء الجيش السوري الذي لم تنجح إسرائيل في هزيمته خلال ستين عامًا من الحروب والمعارك، وكأن الهدف كان واضحًا: إسقاط دولة بأكملها وإفساح الطريق للاحتلال للتوسع بلا مقاومة.
وفي ظل هذه الفوضى، استطاعت إسرائيل التقدم بهدوء واحتلال أراضٍ جديدة، لتأتي اليوم وتعلن عن توسيع رقعة استيطانها في الجولان السوري المحتل، بينما يقف المجتمع الدولي متفرجًا. الأخطر من ذلك، هو ما يحدث داخل سوريا نفسها: مئات القرى والمناطق التي دُمرت وأُرهبت بفعل الممارسات المتطرفة لجماعات يُشكك كثيرون في ولائها وارتباطاتها، حتى أصبحت تلك القرى تطالب بضمها إلى إسرائيل، تحت وطأة الإرهاب والخوف. هنا يبرز السؤال الصادم: إن لم يكن هؤلاء أدوات في يد إسرائيل، فمن يكونون إذن؟
لقد نجحت إسرائيل، مستغلة حالة الفوضى والانقسام داخل سوريا، في تحقيق ما عجزت عنه طوال عقود. ومع ذلك، فإن صمت المجتمع الدولي والعربي إزاء هذه الانتهاكات يدعو إلى الريبة والشك. أين هي الدول العربية التي كانت تتشدق دومًا بدعم القضايا العربية؟ وأين هي القوى الكبرى التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان حينما يتعلق الأمر بانتهاكات واضحة للقانون الدولي؟ لقد تحوّل الجولان السوري المحتل إلى مسرح جديد لأطماع إسرائيل التوسعية، وسط صمت مُريب يُثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل المنطقة بأكملها.
وسط كل ذلك، تظل مصر الدولة الوحيدة التي تحمل على عاتقها مسؤولية الدفاع عن الحق العربي. موقفها الصارم في إدانة القرار الإسرائيلي ليس مجرد موقف سياسي عابر، بل هو إعلان واضح بأن هناك من لا يزال يتمسك بالمبادئ ويدافع عن حقوق الشعوب العربية التي تسعى بعض القوى لمحوها من الخريطة. لكن السؤال الملح: إلى متى ستظل مصر تقف وحدها في وجه هذه الانتهاكات بينما يختبئ الجميع خلف ستار الصمت المريب؟
إن ما يحدث اليوم في سوريا هو جريمة مكتملة الأركان. فحين يُترك شعب بأكمله يُذبح على يد جماعات متطرفة يُشاع ارتباطها بأجهزة استخباراتية خارجية، وحين تُقصف المدن والقرى بلا رحمة، وحين تُطالب بعض المناطق المنكوبة بالانضمام إلى إسرائيل تحت وطأة الخوف والدمار، فإن الأمر لم يعد مجرد حرب أهلية. إنها حرب مخططة، أُعدت لها الأوراق مسبقًا، وكانت نتيجتها دمار سوريا وتفكيك جيشها وتسليم جزء من أرضها على طبق من ذهب للكيان الصهيوني.
ختامًا، إن موقف مصر وحده في مواجهة هذه الانتهاكات يستحق التقدير، لكنه في الوقت ذاته يسلط الضوء على تقصير دولي وعربي فاضح. فهل يُعقل أن تظل الأمة العربية عاجزة أمام مخططات تُنفذ تحت أعين الجميع؟ أم أن الزمن قد غيّر موازين القوة وأصبح التطبيع مع الاحتلال، والتغاضي عن جرائمه، هو القاعدة الجديدة؟ على العالم أن يدرك أن استمرار هذه السياسات لن يجلب إلا المزيد من الفوضى والدمار، وأن ما يحدث في سوريا اليوم قد يكون مقدمة لمخطط أوسع يستهدف المنطقة بأكملها.