يكشف تحليل تاريخ الصراع مع إسرائيل جملة من التناقضات والانقسامات التي ميزت هذا الصراع في مراحله المختلفة، منذ موجات الهجرة اليهودية المنتظمة التي وفدت إلى أرض فلسطين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ووضع أسس لمجتمع يهودي على أرض فلسطين كتجسيد للمشروع الصهيوني. هذه التناقضات والانقسامات كانت سمة ملازمة للحركة الصهيونية التي انقسمت إلى تيار رئيسي، وآخر يميني تحريفي، وسمة ملازمة أيضاً للتجمعات اليهودية، في الشتات وعلى أرض فلسطين، بين قوميين علمانيين وقومين متدينين ومتدينين رافضين للحركة الصهيونية، وبين يهود غربيين (أشكناز)، ويهود شرفيين (سيفارديم) أو(مزراحيم) نسبة إلى الشرق (مرزاحي) باللغة العبرية، علاوة على الانقسامات التقليدية بين اليهود الأرثوذكس واليهود القراءين، واليهود الإصلاحيين وهم من ولدوا لأباء يهود ولكن لأمهات غير يهوديات أو الذين اعتنقوا الديانة اليهودية.
الانقسامات كانت سمة ملازمة أيضاً للطرف الفلسطيني والأطراف العربية المنخرطة في هذا الصراع. لكن يبرز من التحليل فارقان حاسمان يعملان لصالح إسرائيل ومشروعها على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
الفارق الأول يتمثل في الآلية التي اختارها كل طرف لإدارة الانقسامات الداخلية وتوظيفها من أجل بلوغ الأهداف القريبة والمباشرة، وإعادة صياغة الأهداف الأبعد في ضوء النتائج المتحققة على أرض الواقع. لقد اختارت القيادة والنخبة اليهودية في فلسطين، ومنذ اللحظة الأولى، الديمقراطية كألية لإدارة الانقسام وبناء التوافق العام حول الأهداف المرحلية، وقد اختارت النخبة النموذج الأمثل لهذه الديمقراطية من خلال النظام البرلماني القائم على التعددية الحزبية. وبذلك فتحت قنوات تسمح للقوى المختلفة بأن تكون ممثلة في الكنيست، الذي أنشئ قبل إعلان الدولة، ولم يقتصر نجاح هذا النموذج في وضع أسس لإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي على مستوى المجتمع اليهودي فقط، وإنما نجح أيضاً في استيعاب الفلسطينيين الذين ظلوا ضمن حدود إسرائيل بعد حرب عام 1948. غير أن هذا النموذج له أيضاً أزماته الخاصة التي تكشف عنها تعقيدات السياسة الإسرائيلية، والتي أبرزها اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين في عام 1995، والتي لخصها عالم الاجتماع الإسرائيلي صموئيل أيزنشتات في كتابه بعنوان تناقضات الديمقراطية وفي العديد من الكتابات الأخرى، سنتناول هذه التعقيدات بالتفصيل لاحقاً.
في المقابل، لا يزال الشعب الفلسطيني، ومن ورائه النخب والشعوب العربية، يناضل من أجل حقوقه السياسية وحرياته العامة، ولا يزال بين هذه الشعوب وبين الصيغة الديمقراطية في الحكم وتداول السلطة بون شاسع. وكان لهذا الوضع تأثيره الكبير على التماسك السياسي للمجتمع الفلسطيني الخاضع للاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان غياب الديمقراطية بمفهومها الشامل، أحد الأسباب الأساسية للانقسام الذي ترتب على فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في انتخابات المجلس التشريعية الفلسطيني التي أجريت أواخر يناير عام 2006 كأحد استحقاقات اتفاق أوسلو للسلام، والمفارقة أن حماس لم تعترف بالاتفاق الذي أجريت على أساسه الانتخابات التي فازت فيها بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، وما ترتب على الخلاف حول تقاسم السلطة بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة التي نشأت بموجب اتفاق أوسلو وبين حماس من نتائج، لعل أبرزها عدم إحراز أي تقدم منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية للتوصل إلى اتفاق ينهي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، في سياق ما يعرف بملفات الحل النهائي.
الفارق الثاني، يتمثل في مهارة كل طرف من طرفي الصراع في توظيف واستغلال التناقضات والانقسامات لدى الطرف الثاني من خلال استراتيجيات لإدارة الصراع، سواء كانت الإدارة بأسلوب مسلح أم بأساليب أخرى سياسية أو غير عنيفة. نجحت إسرائيل أيضاً، وربما بسبب نموذجها السياسي، في توظيف التناقضات والانقسامات الداخلية فيما بين الأطراف العربية وعلى الساحات الداخلية، لا سيما الساحة الفلسطينية، ولا تتوافر أي أدلة تشير إلى سعي الأطراف العربية، في أي وقت، لاستغلال الانقسامات والتناقضات داخل إسرائيل، أو فيما بين الجماعات اليهودية على المستوى العالمي الأوسع، أو لاستغلال التناقضات داخل المعسكر الدولي الداعم لإسرائيل، بل تتبنى الأطراف العربية غالباً، على الرغم من الاختلافات والخلافات فيما بينها، سياسات وخطابات تساعد إسرائيل على رأب انقساماتها الداخلية، وتمكنها من تطوير قواسم مشتركة مع القوى الخارجية. هذا الفشل ناجم أولا عن الطبيعة الاستبدادية لنظم الحكم السائدة في البلدان العربية، وناجم أيضاً عن الجانب الأهم لانقساماتنا، وهي الانقسامات الأيديولوجية والفكرية والمذهبية، قبل الانقسامات السياسية الناجمة عن اختلاف التقديرات السياسية لهذا الطرف أو ذاك، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الإقليمي.
حرب غزة والانقسام داخل إسرائيل
جرت عملية طوفان الأقصى في توقيت بلغت فيه حدة الانقسامات السياسية الداخلية في إسرائيل ذروة غير مسبوقة، نتيجة للتحولات في الخريطة السياسية الإسرائيلية لصالح أحزاب اليمين بأطيافها المتباينة، والنفوذ المتزايد لليمين الديني المتطرف. وامتدت هذه الانقسامات للوسط العربي في إسرائيل والأحزاب السياسية التي تعبر عنه، الأمر الذي أدى إلى تراجع نفوذ الأحزاب العربية في الكنيست والذي كان حضورها واحتلالها عددا من المقاعد عززت التمثيل العربي في الكنيست، سواء من خلال القوائم العربية الخالصة، أو من خلال النواب العرب، من أعضاء الأحزاب السياسية المختلفة، بما في ذلك حزب الليكود، والتي تحرص على وضع مرشحين عرب على قوائمها من أجل كسب أصوات الناخبين العرب، وهي أصوات تكفي للحصول على نسبة الحسم التي تمكن هذه الأحزاب وتلك القوائم من الحصول على مقاعد في الكنيست والتأثير في قرارته، وتمكنت الأحزاب العربية نتيجة هذا الوضع من التأثير على تشكيل الحكومات الائتلافية في إسرائيل أو الإطاحة بها بالتصويت على حجب الثقة عن الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة. وأثار تزايد نفوذ الوسط العربي في السياسة الإسرائيلية قلق الأحزاب الدينية المتطرفة، كما أثار قلق بنيامين نتنياهو زعيم الليكود، التي حالت الأحزاب العربية دون تمكنه من تشكيل حكومة ائتلافية مرتين على الأقل في السنوات الخمس الأخيرة، فعملت هذه القوى على تعميق الانقسامات في الوسط العربي وتهميش تمثيل القوائم العربية في الكنيست الأمر الذي أتاح لنتنياهو تشكيل حكومة ائتلافية بضمان تصويت أكثر من نصف أعضاء الكنيست بالثقة لصالح الحكومة التي سعت إلى إدخال تعديلات جذرية على النظام القضائي عبر تعديل قانون السلطة القضائية وغيره من القوانين الأساسية التي تقوم مقام الدستور.
وأثارت هذه التشريعات التي رأتها الأحزاب اليهودية الأخرى وقطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي انقلاباً دستورياً يقوض الأسس الديمقراطية لنظام الحكم، لما تتضمنه التعديلات المقترحة من إخلال بمبدأ التوازن بين السلطتين القضائية والتشريعية، الأمر الذي يعني في النظام البرلماني تركيز السلطة في يد المشرعين، وإخضاع السلطة القضائية لهم. وانتفضت قطاعات كبيرة من الجمهور اليهودي، لاسيما اليهود العلمانيين للتصدي لهذه التعديلات، الأمر الذي دفع الأحزاب اليمينية لحشد أنصارها من المتدينين والمستوطنين. وتعمق الانقسام في المجتمع اليهودي إلى حد بات يهدد التوافق العام الذي شكل ركيزة أساسية للدولة، وبدأت قطاعات واسعة من اليهود العلمانيين تستشعر الخطر على مستقبلها داخل إسرائيل التي تمضي في طريقها لأن تصبح نظاماً استبدادياً تتحكم فيه قوى دينية متطرفة وفاشية. ووجدت هذه الأحزاب في حرب غزة، طوق نجاة يمكنها من الاحتفاظ بالسلطة وكسب مزيد من التأييد في أوساط الناخبين اليهود، إلى حين تعديل الميزان الديموغرافي الخريطة السياسية بشكل حاسم لصالحها، نتيجة التباين الشديد في متوسط عدد أفراد الأسرة لدى المتدينين وبين المتوسط لدى العلمانيين، الأمر الذي يزيد قلق اليهود العلمانيين ويدفعهم للهجرة خارج إسرائيل، وعليه فهي أكثر الأطراف حرصا على استمرار الحرب، وتعارض أي صفقة لتبادل الأسرى تشترط إنهاء الحرب في غزة وتسعى للتصعيد في الضفة الغربية.
لا تزال هناك مساحة للتأثير في السياسة الإسرائيلية عبر الانتخابات والكنيست ولكن بشرط حدوث تحول جذري في الوسط العربي في إسرائيل ورأب الخلافات بين القائمة العربية المشتركة، بزعامة أيمن عودة، والقائمة العربية الموحدة التي تنتمي لأيديولوجية الإخوان المسلمين، بزعامة منصور عباس، والتي وافقت على قانون يهودية الدولة رغم معارضة الغالبية الساحقة في الوسط العربي لهذا القانون، بما في ذلك الدروز الموحدين لهذا القانون. إن التغلب على الانقسامات بين المكونات السياسية للوسط العربي أمر صعب نظراً لهوة الخلافات بين أقطابه، وربما يكون الأمل معقوداً على ظهور شخصيات أو قوة سياسية جديدة تكون قادرة على حشد أصوات الناخبين في الوسط العربي لتحقيق نسبة الحسم وزيادة مقاعد المشرعين العرب في الكنيست. قد يكون شعور قطاعات عريضة في الوسط العربي بخطورة وضعها المستقبلي في ظل هيمنة الأحزاب اليهودية المتطرفة قد يمثل بارقة أمل، عبرت عنها التغييرات الجذرية التي حدثت في الانتخابات البلدية والدفع بوجوه جديدة على خلفية مشكلة تفشي الجريمة والعنف في الوسط العربي وتقاعس الشرطة الإسرائيلية عن التصدي لها، مع وجود مؤشرات على تشجيعها والتسهيل للعصابات الإجرامية.
وفي كل الأحوال، فإن مستقبل الخريطة السياسية في إسرائيل مفتوح لاحتمالات شتى في ظل التطورات الإقليمية والدولية الحادثة. ومن المؤكد أن حرب غزة أجلت لبعض الوقت انفجار الأوضاع السياسية داخل إسرائيل والتي كانت تضع المجتمع اليهودي على حافة الحرب الأهلية، لكنها لم تلغِ هذه التناقضات التي عادت للظهور من جديد بل تعمقت على خلفية التقارير التي تشير إلى خلافات شديدة بين الحكومات والمؤسسة الأمنية التي ستنفجر حتماً عندما تحين ساعة الحساب ويفتح التحقيق في هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حماس على المستوطنات في منطقة غلاف غزة. وبينما كانت المؤسسات الأمنية تحذر من خطورة التشريعات التي تقدم عليها حكومة نتنياهو على أمن إسرائيل، أفادت أحدث التقارير إلى بأن رؤساء الأمن حذروا نتنياهو في صيف 2023 من أن إسرائيل تبدو معرضة بشكل متزايد للهجوم، حيث يسعى أعداء البلاد لاستغلال التوترات الاجتماعية العميقة وشن هجوم. والهجوم الذي شنته حماس مكَّن نتنياهو من تعزيز وضعه لبعض الوقت لكنها كشفت عمق التناقضات الداخلية وعجز الآليات التي اتبعت لبناء التوافق العام بين الأطياف السياسية المختلفة وإعادة بنائه.
حرب غزة وتجاوز الانقسام الفلسطيني
كشفت الحرب الأخيرة في غزة أيضاً، مدى عمق الانقسامات الداخلية على الساحة الفلسطينية، على الرغم من تزايد شعبية حماس وتعزيز وضعها في الضفة الغربية وكذلك في أعين القطاعات العريضة من الجماهير العربية، ولم تتمكن هذه الشعبية أيضاً من إحداث تغييرات في مواقف الحكومات العربية، الأمر الذي كشف عمق الهوة التي تفصل بين هذه الحكومات التي تمكنت من قمع مشاعر الغضب الجماهيري الواسع بسبب ما يحدث في غزة وتنقله وسائل إعلام مختلفة عبر الشاشات، وبين الجماهير العربية التي لم تتمكن من ترجمة مشاعر الغضب لديها لإحداث تغييرات في المعادلة ولم تتمكن من تقديم ما يكفي من الدعم للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة التي تعيشها، نتيجة لغياب الديمقراطية والسياسات الاقتصادية المتحيزة لمصالح النخبة والموجهة من الدوائر الاقتصادية العالمية بسبب سياسات الاقتراض التي يجري توجيهها لاستثمارات طويلة الأجل في مشروعات البنية التحتية ولا تلبي الأولويات الملحة لتلك القطاعات العريضة من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية. وبعيداً عن الساحات العربية الداعمة للحقوق الفلسطينية المشروعة، يظل الانقسام الداخلي الفلسطيني بين حماس والسلطة الفلسطينية والذي تفاقم نتيجة للأوضاع الناجمة عن الحرب في غزة هو الملمح الأبرز منذ أن أحكمت حماس سيطرتها على غزة في عام 2007، وباءت بالفشل كل محاولات تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن الحرب في غزة وما ترتب عليها من نتائج فيما يخص مستقبل سلطة حماس في القطاع، لم تنجح الجهود التي استأنفتها مصر وقطر لتحقيق تفاهم بين السلطة وحماس حول إدارة القطاع بعد انتهاء الحرب والإشراف على عملية الإعمار، ولم يتوافق الطرفان الفلسطينيان رغم التعنت الذي تبديه حكومة نتنياهو تجاه السلطة وحماس. وعلى الرغم من المرونة التي يبديها زعماء حماس وتعديل بعض شروطهم من أجل التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى مقابل وقف إطلاق النار وبخصوص مستقبل قطاع غزة، بعد مقتل يحيى السنوار زعيم حماس في 16 أكتوبر الماضي، بعد أشهر من اختياره زعيماً لحماس عقب اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس في العاصمة الإيرانية طهران يوم 31 يوليو، إلا أن هذه المرونة لم تسمح بعد بالتوصل إلى مصالحة تاريخية بين حماس وحركة فتح التي كانت كبرى الفصائل الفلسطينية والتي تهيمن على السلطة الفلسطينية، المحاصرة والتي تواجه تصعيداً إسرائيلياً في الضفة الغربية يقوض شرعيتها. الرهان هنا أيضاً معقود على ظهور شخصية فلسطينية قادرة على توحيد صفوف الفلسطينيين أو بروز تيار سياسي قادر على إعادة بناء حركة التحرر الوطني الفلسطينية، والإقدام على سلسلة من المبادرات الداخلية والخارجية التي من شأنها تغيير الوضع الراهن.
وعلى المستوى الإقليمي الأوسع، يمكن القول إن القضية الفلسطينية تضررت بشدة نتيجة للانقسام بين المدافعين عن نهج التسوية السياسية للصراع مع إسرائيل والتركيز على الأدوات والوسائل السياسية لبناء المشروع الوطني الفلسطيني ووضع أسس الدولة وبناء مؤسساتها واستغلال الفرص والمساحات المتاحة لذلك، وهو النهج الذي يروج له الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي يوصف بأنه مهندس اتفاقات أوسلو، وبين محور المقاومة الذي ترعاه إيران ويضم فصائل شيعية موالية أو متحالفة معها في العراق ولبنان واليمن، وكانت تتمتع بحرية حركة واسعة على الساحة السورية قبل الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد وسيطرة الفصائل الإسلامية المناوئة على السلطة في سوريا، والذي منى بخسائر كبيرة رغم الصمود في المعارك في الحرب الدائرة منذ أكتوبر العام الماضي والتي شهدت سلسلة من المواجهات طالت الداخل الإسرائيلي مثلما طالت الداخل في كل من سوريا ولبنان واليمن وإيران، علاوة على قطاع غزة الذي شهد دماراً غير مسبوق، واليمن الذي تعرضت مناطق خاضعة لسيطرة جماعة الحوثي التي تشن غارات بالصواريخ والمسيرات على إسرائيل، هجمات جوية إسرائيلية ومن التحالف الدولي الداعم لها بسبب استهداف سفن تجارية تمر عبر باب المندب. وترى حكومة نتنياهو إن انتصارها في الحرب الراهنة إنما يعني تفكيك هذا المحور.
يضاف إلى هذا الانقسام الرئيسي انقسام آخر نتيجة توقيع ما يعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية أوائل عام 2020 بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب، والتي تمضي وفق صيغة “السلام مقابل السلام” التي يطرحها نتنياهو، ولا تشترط إحراز تقدم في حل القضية الفلسطينية لتطبيع العلاقات بشكل كامل مع إسرائيل والدخول في مشروعات للتعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والأمني معها، وتتعرض السعودية لضغوط متصاعدة من أجل الانضمام لهذه الاتفاقيات وتخفيف بعض شروطها المتعلقة بضرورة إحراز تقدم في عملية السلام والتوصل إلى صيغة ما لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وعلى الرغم من أن كثيراً من المراقبين رأوا في هجوم حماس في السابع من أكتوبر، رداً فلسطينيا على هذه الاتفاقيات، لم تتوتر العلاقات بين إسرائيل والدول التي وقعت هذه الاتفاقيات مثلما توترت العلاقات بينها وبين مصر والأردن، اللتين أبرمتا معاهدتي سلام مع إسرائيل بسبب الحرب في غزة. وتنذر التحولات في سوريا بحدوث مزيد من الانقسامات الداخلية في سوريا، وسط مخاوف من احتمالات لتقسيم سوريا تقسيما فعلياً أو تُقسم إلى مناطق للنفوذ التركي والإسرائيلي والقوى الدولية الأخرى المؤثرة على الساحة السورية.
موازنة الانقسامات الإسرائيلية والعربية
ثمة ميزان جديد ينشأ بين الفلسطينيين وإسرائيل، ليس ميزان للقوة، وإنما ميزان لأوجه الضعف والانكشاف لدى الطرفين نتيجة للانقسامات العميقة والحادة داخل المجتمع اليهودي وبين الفلسطينيين، والذي يشمل الانقسامات في الوسط العربي في إسرائيل. ورغم استمرار الحرب في غزة عادت الأوضاع السياسية الداخلية في إسرائيل إلى ما كانت عليه في صيف 2023، حين وصلت التوترات السياسية إلى نقطة الغليان الوقت بسبب خطط حكومة نتنياهو الائتلافية للحد من استقلال النظام القضائي، التي قوبلت بمظاهرات حاشدة مناهضة للحكومة والتي دفعت بعض جنود الاحتياط إلى وقف الخدمة التطوعية احتجاجا، وتهديد آخرين بالامتناع عن أداء الخدمة الإلزامية إذا تم تمرير القانون، يضاف إلى ذلك المظاهرات الحاشدة التي تنظمها عائلات المخطوفين المحتجزين في غزة والتي تضغط على الحكومة للتوصل إلى صفقة تبادل للأسرى ووقف الحرب، بالإضافة إلى الخلافات الشديدة بين مكونات الائتلاف الحاكم بخصوص قانون تجنيد المتدينين وطلاب المعاهد الدينية اليهودية وما تثيره من تداعيات، والضغوط الدولية المتزايدة على نشاط المستوطنين والمتطرفين اليهود، بما في ذلك الضغوط الأمريكية.
على الجانب الفلسطيني، يمكن القول بأن هجوم السابع من أكتوبر أعاد الفضية الفلسطينية للساحة الدولية رغم التحالف الدولي الذي ترعاه الولايات المتحدة الداعم لإسرائيل في حربها، وسوف تتضح أكثر توجهات إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب العائد للبيت الأبيض وسياساته الجديدة تجاه الشرق الأوسط، لكن ثمة مؤشرات على أنه سيتبنى نهجاً مختلفا عن النهج الذي تبناه في إدارته الأولى التي كانت أكثر دعما لإسرائيل وتحيزاً ضد الفلسطينيين، لكن قد يستفيد الفلسطينيون من نواياه المعلنة بخصوص ضرورة وقف الحرب في غزة وفي أوكرانيا. ومن الواضح أن اللاعبين الإقليميين الرئيسيين والدوليين قاموا بمناورات لفرض ملفات جديدة لم تكن مطروحة في الشهور القليلة الماضية، قبل أن يتولى مباشرة مهامه الرئاسية رسمياً في 20 يناير القادم، ولا شك أن التطورات في سوريا، ستشغل حيزاً من تفكير إدارته القادمة. من المؤسف، أننا لم نشهد تحركات على الساحة الفلسطينية تحدث فارقاً في المعادلة، من خلال تجاوز الانقسام الداخلي على نحو يعطي فرصة لترتيبات سياسية جديدة تضمن للفلسطينيين مقعدا على طاولة المفاوضات الدولية حول قضيتهم.