د.محمود رمضان
يكفيها شرفاً أن القرآن الكريم احتفى بها، وورود اسمها وسيرتها العطرة في آيات كثيرة في سورة «آل عمران»، وغيرها من السور، ويكفيها شرفاً أن ابنتها سيدتنا مريم التي اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، ولها سورة في القرآن الكريم باسمها، وأنها جدة سيدنا عيسى عليه السلام، إنها سيدتنا حنة بنت فاقوذ، زوج عمران، وأخت زوج زكريا عليه السلام.
هي من نسل إبراهيم خليل الرحمن، العابدة، التقية، النقية، الطاهرة، المطهرة، الصوامة، القوامة، التي كان بينها وبين الله عهد ووفت به، فأجزل الله تبارك وتعالى لها العطاء بمعجزات في ابنتها وحفيدها، واصطفى الله تبارك وتعالى سيدنا آدم وسيدنا نوح وآل إبراهيم وآل عمران، يقول الحق: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»، وآل عمران هم الرجل الصالح عمران وزوجه فاقوذ وابنتهما مريم وابنها سيدنا عيسى عليه السلام.
وكان عمران سيد قومه وشيخهم، من نسل إبراهيم خليل الرحمن، المتعبد لله آناء الليل وأطراف النهار، الأشد خشية لله في عصره، حبر أحبار بنى اسرائيل، وصاحب صلاتهم، وامتد به العمر ولم تنجب له زوجه ولدا ولا بنتا، وكانت الوطأة أشد على سيدتنا فاقوذ، التي كانت عابدة صوامة قوامة، ولكنها لم تيأس من الدعاء، ظلت تناجي الرحمن الرحيم في صلواتها، باكية متضرعة إلى الله، حتى نذرت لله إذا وهبها الله ولدا لتصرفنه في خدمة الدعوة إلى الله وحده، ولنشر كلمة لا إله إلا الله، ليستكمل دعوة أبيه وأمه إلى الله تبارك وتعالى.
ويستجيب الله دعاءها، وتحمل سيدتنا فاقوذ وقد بلغت من الكبر عتيا، فتنذر من في بطنها لله عز وجل لرفع راية التوحيد، «إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، وأثناء شهور حملها كانت تتمنى مولودا ذكراً ليستطيع خدمة بيت الله عز وجل، والسير على نهج أبيه عمران، لخدمة بيت المقدس.
ويتوفى عمران إلى رحمة الله قبل أن يرى مولوده، فتحزن سيدتنا فاقوذ لأن المولود سوف يأتي إلى الدنيا يتيماً، وتمضي الأيام حتى تضع سيدتنا فاقوذ حملها، وقضت إرادة الله بمولودة أنثى، «فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، ويستجيب الله لها، ويتقبل منها مولودتها سيدتنا مريم، التي أحاطها الله بعنايته ورعايته واختصها بالمعجزات، فذهبت سيدتنا فاقوذ للبحث عن من يكفل مريم، وتنافس الكبراء والشرفاء وصفوة المتعبدين لله على كفالتها، فكانت إرادة الله أن يكفلها سيدنا زكريا، عليه السلام، ولهذه الكفالة قصة.
كان جميع الأحبار يريدون كفالة الوليدة مريم لما رأوه من نور يشع من وجهها، فعمران أبو مريم كان معلمهم ومن درسهم دينهم وذا أفضال عليهم، فاتفقوا أن يقفوا على مجرى النهر ويرموا أقلامهم، وقد اختاروا القلم لأن أبو مريم كان يعلمهم بالقلم، واشترطوا أن صاحب آخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها، فرموا أقلامهم، وجُرفت في النهر، ووقف قلم زكريا ولم ينجرف في النهر، فرموا مرة ثانية وحدث نفس ما حدث في المرة الأولى، أي أن قلم زكريا وقف في النهر، ثم رموا المرة الثالثة فوقف القلم في النهر مرة أخرى، يقول الحق: «ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يختصمون»، فآواها الله عند زوج خالتها نبي الله زكريا، وكان هذا من رحمة الله بمريم ورعايته لها.
فكانت سيدتنا مريم عابدة لله حق عبادته، صوامة لله قوامة لجماله وجلاله وكماله ووحدانيته، وانقطعت سيدتنا مريم عن الناس، وتفرغت للعبادة، كانت تقضي نهارها صوامة، وليلها قوامة لله تبارك وتعالى في محرابها، حيث يأتيها رزق من الله لا يدري أحد من الخلق سره، حتى سيدنا زكريا الذي كان يأتيها بالطعام فترد طعامه ردا جميلاً، لأنه كان يجد عندها من الطعام ألذه وأشهاه، «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
وتتوفى سيدتنا فاقوذ إلى رحمة الله ورضوانه، وتعيش سيدتنا مريم يتيمة الأبوين، فيأتي الإحسان من الرحمن الرحيم لسيدتنا مريم بقول الحق: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»، فتصفو روح سيدتنا مريم بحديث الملائكة إليها، وببشراهم بأن الله، جل جلاله، اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين.
ثم يأتي الامتحان الأكبر لسيدتنا مريم، العذراء البتول، الطاهرة المطهرة، بأن أرسل لها سيدنا جبريل يبشرها بحملها ثم ولادتها سيدنا عيسى عليه السلام، ووردت الوقائع في قرآن يتلى إلى يوم القيامة في سورة مريم:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ».
ويقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ».