في ظل الأزمات الإقليمية المتشابكة، تجد دول الخليج نفسها أمام تحدٍّ خطير قد يهدد أمنها واستقرارها، وهو خطر تنظيم داعش الإرهابي. و يظن البعض، ولو للحظة، أن دعم أو غض الطرف عن هذه الجماعات المتطرفة يمكن أن يكون ورقة ضغط أو أداة لتحقيق مكاسب سياسية مؤقتة، لكن التاريخ أثبت أن اللعب بالنار مع التنظيمات الإرهابية لا ينتهي إلا بكارثة تحرق الجميع.
تنظيم داعش، الذي لا يعرف الولاء إلا للفوضى والدمار، ليس مجرد أداة تُحرَّك لتقويض الخصوم؛ بل هو وحش مفترس ينقلب على صانعيه قبل غيرهم. لقد رأينا كيف كانت نهايات من استهانوا بخطورة هذه التنظيمات واعتقدوا أنهم يستطيعون التحكم بها أو استخدامها كأوراق سياسية، فهل يكرر الخليج نفس الأخطاء؟
دعم داعش بأي شكل من الأشكال – سواء بالتساهل الأمني، أو التمويل الخفي، أو التهاون في محاربته فكريًا وعسكريًا – هو انتحار سياسي وأمني، بل هو تهديد وجودي قد يدفع دول الخليج ثمنه غاليًا. فالخطر لا يقتصر على الحدود السياسية، بل يمتد إلى المجتمعات، حيث يستغل التنظيم أزمات الشباب الاقتصادية والاجتماعية ليزرع بذور التمرد والفوضى.
حذارِ أن تفتحوا الباب لهذا الكيان المتطرف، فإن لم تحاربوه اليوم بكل قوة وحزم، فلن تستطيعوا إيقافه غدًا عندما يعصف بأوطانكم ومكتسباتكم، ويهدد مستقبل أجيالكم.
وهناك عدة أسباب تفرض نفسها حول خطورة هذا التنظيم وضرورة التعامل معه بحزم ووعي:
اولا : توظيف الفكر المتطرف كأداة لضرب الاستقرار الداخلي
يُعد الفكر المتطرف الذي نشره تنظيم داعش في سوريا أداة خطيرة لإثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار داخل المجتمعات والدول. استطاع التنظيم أن يروّج لأيديولوجيا قائمة على العنف والتمرد ضد الأنظمة الحاكمة باستخدام نصوص دينية مشوّهة تخدم مشروعه الإرهابي. ومع تراجع وجوده في سوريا، لم ينتهِ هذا الفكر، بل أصبح قابلًا للتصدير إلى مناطق أخرى، وبالأخص إلى دول الخليج. هنا تتزايد خطورة الأمر مع بروز أدوار خفية لإسرائيل التي تسعى من خلال أدواتها المختلفة، سواء عبر الدعم غير المباشر أو تمرير المعلومات، لاستغلال هذا التوتر لضرب الاستقرار الخليجي.
المجتمعات الخليجية، ورغم استقرارها النسبي، تعاني من بعض التحديات الاجتماعية مثل التفاوت الاقتصادي والبطالة التي يمكن استغلالها. ومن خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، يُعاد إنتاج التطرف في صورةٍ حديثة تلائم الشباب الساخط. إسرائيل التي تبحث عن أي ثغرة لإضعاف دول المنطقة، وربما توظف تلك العناصر المتطرفة لضرب الأنظمة الحاكمة وإشعال الفوضى. فالفكر الداعشي ليس فقط قناعات فردية، بل ربما يتحوّل إلى خلايا نائمة تنشط في أوقات حرجة، مما يضاعف من الأعباء الأمنية.
وفي ظل تزايد حالة الاحتقان التي نجحت إسرائيل في تأجيجها عبر دعم أطراف خارجية أو إثارة القضايا السياسية، فإن الفكر المتطرف يتحوّل إلى أداة مدمرة تُهدد كيان الخليج وأمنه المجتمعي والسياسي، ليجد صانعو القرار أنفسهم أمام تحدٍ مزدوج: مواجهة الإرهاب من الداخل وتجاوز المناورات الإسرائيلية التي تستهدف إضعاف الأنظمة الوطنية.
ثانيا : العلاقة بين إسرائيل وداعش في استغلال حالة الغضب
رغم ما يظهر من عداء علني بين إسرائيل وتنظيم داعش، فإن التحليل الدقيق يكشف عن أدوار خفية تُسهّل استغلال هذا التنظيم كأداة لضرب خصوم تل أبيب الإقليميين. إسرائيل تستخدم وجود داعش كذريعة لتبرير تدخلها العسكري والأمني في بعض مناطق الشرق الأوسط، وفي الوقت ذاته تدعم تحركات خفية لنشر الفوضى. وفيما تستغل إسرائيل بقايا التنظيم لضرب استقرار سوريا والعراق، تُعيد توجيه بوصلته نحو الخليج.
الخطورة هنا تتضاعف مع وجود حالة من الغضب الشعبي في بعض دول الخليج، سواء لأسباب اجتماعية أو سياسية، والتي قد تُغذّيها أطراف خارجية بدعم إعلامي واستخباراتي إسرائيلي. هذا الغضب يُهيئ الأرضية المناسبة لتسلل التنظيمات المتطرفة وإيجاد بيئة حاضنة لها، مما يزيد من احتمالات شن هجمات داخلية تؤدي إلى اضطرابات.
ورغم أن داعش يُظهر عداءً في خطابه تجاه إسرائيل، فإن تل أبيب لم تكن يومًا هدفًا رئيسيًا للتنظيم مقارنة بالدول الخليجية أو الدول العربية الأخرى. هذا الوضع المُريب يُثير تساؤلات حول احتمالات وجود تفاهمات خفية أو على الأقل تجاهل متعمد من إسرائيل لتحركات داعش، طالما أن نتائج تلك التحركات تصب في مصلحة تل أبيب عبر إضعاف أنظمة المنطقة وإشغالها بمعارك داخلية.
ثالثا : عودة “المقاتلين الخليجيين” من سوريا إلى أوطانهم
يشكّل المقاتلون الخليجيون الذين سوف يعودون من ساحات القتال في سوريا تحديًا أمنيًا استراتيجيًا لدولهم. هؤلاء الأفراد، الذين اكتسبوا خبرات قتالية عالية وتبنوا الفكر التكفيري المتطرف، يتحوّلون إلى قنابل موقوتة تهدد استقرار الأنظمة الخليجية. عودة هؤلاء المقاتلين تُعتبر مشكلة أمنية مزدوجة؛ أولًا من ناحية قدرتهم على تنفيذ عمليات إرهابية في الداخل، وثانيًا من ناحية نشر الفكر الداعشي بين الشباب، مما يُعيد إنتاج نموذج داعش في الخليج.
إسرائيل، التي تتابع بدقة تحرّكات التنظيمات المتطرفة، قد تستغل هؤلاء العائدين عبر أدوات استخباراتية مباشرة أو غير مباشرة، سواء من خلال تمرير الدعم اللوجستي لهم أو من خلال تسهيل قنوات عودتهم بطرق ملتوية. الفوضى الناتجة عن تحركاتهم تصب في مصلحة تل أبيب التي تسعى لضرب الاستقرار الخليجي عبر عمليات إرهابية أو خلق حالة من التوتر الأمني المستمر.
في الوقت نفسه، تتزامن عودة هؤلاء المتطرفين مع حالة من الغضب الشعبي التي تغذّيها حملات إعلامية موجهة وممولة من أطراف إسرائيلية، هدفها تحريض الرأي العام وتأليب الشعوب ضد أنظمتها الحاكمة. وهكذا تجد دول الخليج نفسها أمام تحدٍّ أمني معقّد يحتاج إلى تنسيق مكثّف لمواجهة هؤلاء العائدين وتحصين المجتمع ضد الفكر الذي يحملونه، مع التصدي لأي اختراق خارجي قد يسعى لاستغلال هذا الوضع لمصالحه الخاصة.
رابعاً : استهداف البنية الاقتصادية الخليجية
لطالما كان استهداف البنية الاقتصادية أحد التكتيكات الرئيسية لتنظيم داعش في عملياته الإرهابية، وهو ما ظهر بوضوح في سوريا والعراق، حيث عطّل التنظيم منشآت النفط وأدى إلى خسائر اقتصادية فادحة. اليوم، ومع تراجع قوته هناك، قد يعيد التنظيم تصدير هذه الاستراتيجية إلى دول الخليج، التي تُعتبر اقتصاداتها من الأعمدة الرئيسية لاستقرار المنطقة.
الاقتصاد الخليجي يعتمد بشكل أساسي على المنشآت الحيوية كحقول النفط، المصانع، والموانئ، مما يجعلها أهدافًا مغرية لأي جماعة متطرفة تسعى إلى إحداث صدمة داخلية. الأخطر من ذلك، أن تحرّكات داعش قد تتزامن مع دعم أو تسهيلات خفية من إسرائيل، التي تدرك أهمية الاقتصاد كعنصر قوة لدول الخليج. استهداف المنشآت الاقتصادية يُحقّق لإسرائيل أهدافًا مزدوجة؛ فمن ناحية تُضعف تلك الهجمات القدرات الاقتصادية للحكومات الخليجية، ومن ناحية أخرى تُثير حالة من الغضب الشعبي ضد الأنظمة.
التداعيات الاقتصادية لهذه الهجمات قد تكون كارثية؛ إذ إنها لا تتوقف عند الخسائر المادية المباشرة، بل تمتد إلى زعزعة الثقة في بيئة الاستثمار الخليجية، مما يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي وخلق أزمات داخلية يصعب تجاوزها. وهنا يصبح استهداف الاقتصاد الخليجي ورقة ضغط رئيسية في أيدي المتطرفين ومن يدعمهم من أطراف خارجية مثل إسرائيل، التي تسعى لإشغال الخليج بأزمات متتالية تُضعف دوره الإقليمي والدولي.
خامسا : تشجيع التنظيمات الإرهابية على التمرد على الحكومات الخليجية
يُعتبر تنظيم داعش نموذجًا للتنظيمات الإرهابية التي تسعى لإسقاط الأنظمة الحاكمة تحت شعار “الحكم بالشريعة”، وهو شعار تستخدمه التنظيمات المتطرفة لتبرير أفعالها ضد الحكومات المستقرة. وبسبب النزاعات التي خاضها داعش في سوريا، فإنه اكتسب خبرات هائلة في عمليات التمرد والتمكين العسكري في المناطق التي يستهدفها.
اليوم، وبعد هزيمته في سوريا والعراق، قد يحاول التنظيم توجيه خبراته إلى دول الخليج عبر إثارة الفوضى وتشجيع خلايا محلية على التمرد ضد الأنظمة الحاكمة. الجماعات الإرهابية مثل داعش تتغذى على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتستغل حالة الغضب الشعبي لتحقيق أهدافها. فبقايا التنظيم قد يوجهون خطابهم للشباب الساخطين، مدّعين أن التمرد هو السبيل الوحيد “لتحقيق العدالة الاجتماعية” أو محاربة “الفساد”.
من جهة أخرى، فإن إسرائيل، التي تعمل بجد على زعزعة الأوضاع في المنطقة، قد ترى في التنظيم أداة غير مباشرة لإضعاف حكومات الخليج. وفي هذا السياق، يمكن لداعش أن يصبح شريكًا غير مباشر لتل أبيب في معركتها لتقويض استقرار الدول الخليجية. ما يعني أن الأنظمة الحاكمة تجد نفسها أمام تحدٍّ مزدوج: مواجهة الإرهاب التكفيري من جهة، ومواجهة التدخل الإسرائيلي من جهة أخرى.
سادسا : استغلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في استقطاب الشباب
المنطقة الخليجية، رغم الرفاهية التي تُعرف بها، ليست بمنأى عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مثل البطالة بين الشباب أو ارتفاع تكاليف المعيشة. هذه الأزمات تُعد أرضًا خصبة للتنظيمات الإرهابية مثل داعش لاستقطاب الشباب عبر استغلال إحباطهم وإقناعهم بأن “الحل يكمن في الجهاد”. في سوريا، نجح التنظيم في جذب آلاف الشباب من مختلف الدول العربية والغربية باستخدام نفس الأساليب الدعائية.
الأخطر من ذلك أن داعش يُقدّم نفسه كبديل للنظم السياسية الحالية، ويعد أتباعه بتحقيق “العدالة والمساواة”، مستغلًا الخطاب العاطفي والديني لتزييف الحقائق. وفي حال انتشار هذا الخطاب في الخليج، فإنه قد يهدد بتفجير غضب اجتماعي غير مسبوق، خاصة إذا ترافقت الدعوات المتطرفة مع التوترات الطائفية التي تُغذيها إسرائيل.
لذلك، فإن مواجهة هذا التهديد تتطلب من حكومات الخليج اتخاذ خطوات استباقية لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تحصين الشباب فكريًا ونفسيًا ضد دعاوى التطرف. كما يجب تطوير برامج تعليمية وإعلامية تساهم في تعزيز الوعي بمخاطر التنظيمات الإرهابية، وقطع الطريق على أي محاولات لاستقطاب الأجيال الشابة.
سابعا: تهديد الأمن الإقليمي من خلال “الخلايا النائمة”
أحد أخطر الأساليب التي يعتمدها تنظيم داعش هو زرع الخلايا النائمة داخل الدول المستهدفة. هذه الخلايا تُعتبر قنابل موقوتة يمكن تفعيلها في أي وقت لتنفيذ عمليات إرهابية تُربك الأمن الداخلي وتزعزع استقرار الدول. بعد انهيار التنظيم في سوريا، هناك مؤشرات على أن العديد من عناصره تسللوا إلى دول أخرى، بما في ذلك بعض دول الخليج، حيث يعملون بصمت على إعادة بناء الشبكات الإرهابية.
الخلايا النائمة تمتاز بقدرتها على التخفي لفترات طويلة، ما يجعلها صعبة الاكتشاف بالنسبة للأجهزة الأمنية. كما أن بقايا داعش تُراهن على هذه الخلايا لإعادة إحياء وجودها في مناطق جديدة، مستغلة أي حالة غضب أو توتر مجتمعي. ومع حالة الغضب التي نجحت تل أبيب في تأجيجها داخل بعض المجتمعات الخليجية، فإن الخلايا النائمة قد تجد بيئة مناسبة للتحرك والتوسع.
الأخطر من ذلك أن العمليات الإرهابية التي تنفذها هذه الخلايا قد تُستخدم كذريعة من قبل قوى خارجية، مثل إسرائيل، للتدخل في شؤون الدول الخليجية. لذلك، فإن القضاء على خطر الخلايا النائمة يتطلب تنسيقًا أمنيًا واستخباراتيًا عالي المستوى بين دول الخليج، إلى جانب تعزيز التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب.
ثامنا: تشويه صورة الأنظمة الخليجية أمام الرأي العام الدولي
من بين الاستراتيجيات التي يعتمدها تنظيم داعش لضرب استقرار الدول هو تشويه صورة الأنظمة الحاكمة أمام شعوبها وأمام المجتمع الدولي. في سوريا، سعى التنظيم إلى إظهار نفسه كـ”مدافع عن المسلمين”، بينما اتهم الأنظمة الحاكمة بالعجز عن حماية شعوبها. واليوم، ومع تزايد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، قد تُصبح هذه الاستراتيجية أكثر خطورة، حيث يمكن استخدامها لزرع الفتنة داخل المجتمعات الخليجية.
تنظيم داعش قد يلجأ إلى تنفيذ عمليات إرهابية داخل دول الخليج، ثم يُحمّل الأنظمة الحاكمة المسؤولية عن هذه الهجمات، مدّعيًا أنها فشلت في حماية شعوبها. هذا الخطاب قد يجد صدى لدى بعض الفئات الغاضبة، خاصة إذا نجحت تل أبيب في تأجيج مشاعر الغضب الشعبي. من جهة أخرى، فإن التنظيم قد يسعى إلى تشويه صورة دول الخليج أمام المجتمع الدولي، من خلال اتهامها بدعم الإرهاب أو انتهاك حقوق الإنسان.
تشويه صورة الأنظمة الخليجية يُعتبر هدفًا مشتركًا لكل من داعش وإسرائيل، حيث يسعى الطرفان إلى إضعاف شرعية هذه الأنظمة على المستويين الداخلي والخارجي. مواجهة هذا التهديد تتطلب من دول الخليج تكثيف جهودها الإعلامية والدبلوماسية للتصدي لحملات التشويه، إلى جانب تعزيز الاستقرار الداخلي وتحقيق العدالة الاجتماعية لكسب ثقة الشعوب.
ولكن!
وفي ظل هذا المشهد المتشابك، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل تدرك دول الخليج خطورة التهاون مع تنظيم داعش أو استغلاله كأداة لتحقيق مصالح ضيقة؟ وهل يمكن لأي دولة أن تأمن على استقرارها في ظل وجود وحش متطرف يستغل الأزمات لزرع الفوضى والخراب؟
ما هو الثمن الذي قد تدفعه دول الخليج إذا تغلغل هذا التنظيم في مجتمعاتها أو نجح في استقطاب شبابها المحبط؟ وكيف ستواجه هذه الدول خطر الخلايا النائمة التي قد تتحرك في لحظة حاسمة لتضرب الأمن الداخلي؟
وأخيرًا
هل تستطيع دول الخليج أن تتصدى لمخططات إيران التي تسعى لخلق تحالفات خفية مع الجماعات المتطرفة لإشعال المنطقة، أم ستبقى هذه الدول رهينة للمخاطر التي تتربص بها من كل اتجاه؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تستدعي تحركًا عاجلًا وحاسمًا، لأن الانتظار قد يحوّل المخاوف إلى واقع مرير لن تنفع معه الندم.