معذرة، أعتذر لفصل الخريف، تجاوزته وأنا أهرب من قيظ الصيف تشوقا للشتاء، وعذرنا أن في وجهنا نظر..ولدت في عز الشتاء، في أواخر ديسمبر علي ذيل برج الجدي، وقرن برج الحمل ، وفي المهد كنت أفتح فمي الصغير لاستقبال قطرات المطر الشحيحة باستمتاع طفولي ، أتذوقها، طعمها ليس كطعم الماء، ماء السماء له مذاق خاص..وفي صباي كنت أغتبط بالشتوية ، عندما تشي وأجري تحت المطر فرحان ومزأطط ، وأردد مع الأطفال، يا مطرة رخي رخي..وشابا عشقت أغاني الشتاء كافة ، سيما مقطع في أغنية ( الربيع ) بصوت طيب الذكر صاحب الصوت الرصين “فريد الأطرش””وآدي الشتا يا طول لياليهعلى اللي فاتُـه حبيبهيناجي طيفـه ويناديهويشكي للكون تعذيبه”معلوم عشاق الشتاء ينفرون من أغنية “الربيع” امن كلمات الرقيق كالنسمة “مأمون الشناوى”،معلوم ومن وحي أغنيته الشهيرة، الله يرحمه ما كان يحب رمادية الشتاء، يفتنه صحو الربيع والورد مفتح على عوده، لذا تدفقت كلماته تنعي الشتاء ولياليه وأيامه، وظل طوال أغنية الربيع يناجي الربيع، دون فصول السنة جميعا..يغرد شاكيا وحشة الشتاء ” يا ليل يا بدر يا إنسان يا طير يا زهر يا أغصان..هاتوا لي من الحبيب كلمة تواسي العاشق الحيران..أخد ورد الهوا مني، وفات لي شوكُهُ يألمني .. ماعرفش إيه ذنبي! غير إني فى حُبي أخلصت من قلبي!وغاب عني. لا كلمني ولا قال أمتى راح أشوفوهوأقول ممكن هيرحمنـي ويبعت فى الربيـع طيفه”.**نترك العم مأمون فى الرحاب السماوية هانئا، جارة الوادى “فيروز” أطال الله عمرها، تغنت للشتاء وكأنها تشقشق تحت زخات المطر، فيروزات الشتاء ألبوم من سبعة أغاني تغنت بها فيروز فى مشوارها الغنائي، كل أغنية تحيل إلى شتاء لبنان، ثلج ومطر ورعد، شتاء لبنان لا يحتمله إلا أصحاب القلوب الدافئة.ثبت فيروزات الشتاء، يضم “حبيتك بالصيف حبيك بالشتا” وفيها تترفق فيروز بمحبي الصيف، و”تحت الشتا حبوا بعضن”، و”رجعت الشتوية” وهذه أيقونة الشتاء عند فيروز والأخوين رحباني، و يفضّل الكثيرون الاستعانة بـ”أديش كان في ناس”، كأغنية مثالية للشتاء والأمطار، والتي هي من ألحان زياد رحباني، وأغنيتها “ثلج ثلج”.على حب فيروز للشتاء ، تغني البعض بالشتاء، قائمة “أغاني المطر والشتاء”، طويلة، الفنانة “حنان ماضي” بأغنيتها “عصفور في ليلة مطر”، ثم الفنان أحمد منيب بأغنية “الدنيا برد”، تلك الأغنية التي قدّم لحّنها لكنها من كلمات فؤاد حداد، وتتبعها أغنية الفنان “محمد منير” “شتا”، والذي أطلقها في عام ١٩٩٥، وكانت ضمن ألبوم يحمل عنوان “ممكن”، ومؤلفتها “كوثر مصطفى” ومُلحنها “حسين جاسر”، وينضم إلى المُغنيين المحبين للشتاء الفنان “على الحجار” بـ”لما الشتا يدق البيبان”، كلمات “إبراهيم عبدالفتاح” وألحان “أحمد الحجار” أما التوزيع الموسيقي لـ”ياسر عبدالرحمن”.و أغنية الفنانة جوليا بطرس “برد ونار”، وللفنان الكبير مدحت صالح أغنية لا يضجر فيها من الشتاء رغم قسوته “مهما الشتا قسي”،الفنانة “إليسا” بأغنيتها التي أطلقتها ضمن ألبوم “أيامي بيك” عام ٢٠١٧ وهي “أواخر الشتاء”، وأغنية القيصر ، كاظم الساهر “حبيبتي والمطر”، كلمات الشاعر نزار قباني وألحان “الساهر”، و الفنانة الشقية “دنيا سمير غانم” أغنية لطيفة تحمل عنوان “قصة شتا”، والأغنية تأليف أمير طعمية وألحان هشام جمال.**الشتاء فى بلدتنا (منوف) بوسط الدلتا له طعم آخر، دفء “يوم الخبيز” الذى يسرى فى أواصل العائلة، كان يوماً بهيجاً، توقد جدتي روحية “الحبوبة” الفرن تحت السلم يسمونه البلاطة، نسبة إلى بلاطة من الطين الذى أحرق حتى صار صلباً فى شكل قرص دائرى، يتوسط قبة مرتفعة قليلاً من فوق البلاطة لتحتوى سخونة الفرن وتحفظ الحرارة، ومن تحتها المحماة، التى يحمى فيها الوقود، أقراص الجلة وأعواد القطن والحطب والورق الكرتون، المحماة تتطلب وقتاً حتى تصطلي ناراً، يوقودنها فجرا حتى تصطلي وتستعر صباحا، تسخن البلاطة، وعندما يعتدل مناخ الفرن، وتستقر درجة الحرارة عند مستوى يسمح بألا تحترق فوطة المحماة المبللة، تبدأ طقوس اليوم الجميل بعد صلاة الفجر.تتخذ الحبوبة مكانها أمام الفرن وأمامها “ماجور العجين” الذى سهرت عليه ليلاً حتى تخمر، ومزجته أمى بيديها وساعديها وفق مقادير من طحين الذرة والدقيق الأفرنكى ومعيار الخميرة حددتها جدتى الطيبة بآلية داخلية تملكها ..بنات الناحية يتوافدن بملابس البيت على فرن أم صلاح، عشقت طلتهن، من يومي أحب البنات، وأحنو عليهن، وأرفق بهن، ولم أرد لإحداهن طلباً، ولم أقسو على أنثى، علمتني جدتى كيف أحنو دون طمع أو غشم، كانت ذوق ذوق، وتفهم فى اصول ” الإتيكيت ” قبل اختراعه، لو كانت ستي رجلا لعشقته بنات الناحية جميعا.سعيدة الحظ التى تجلس قبالة جدتى لتقطع لها العجين براحة يدها تضعه فى المصبة لتتلقاه جدتى مبسملة، و”المصبة” عود من حديد ينتهى بمغرفة، وفى المغرفة يصبون العجين ليناً، بمهارة تحسد عليها تلف المصبة إلى فوهة الفرن تصبها على البلاطة باحترافية خباز محترف، ثم تسوى سطح العجينة بظهر المصبة بلمسات حانية من مصبتها الرقيقة، وهكذا دواليك، وتأخذ البنات دورهن واحدة وراء الأخرى، ويجلسن حتى تفرغ أم صلاح من العجين، فتقف فى وسطهن متحزمة تلقى دروسها، وتعطى شهادات الجدارة .يوم الخبيز له رائحة طيبة تنبعث من الفرن، فوق البلاطة صينية البطاطس باللحم الضانى، تفوح منها رائحة البهار على النار، وصينية الرز المعمر، مالح ومسكر، مضبوط المقادير، لبن وزبدة وسكر أو ملح، طعمه يذوب فى الفم، والفطير المشلتت، كانت ولا فطاطري برج المنوفية، فطيرة أم صلاح تنز سمناً، رقيقة، مفروشة على صينية كأنها من منتوجات ماكينة الفطير، مع العسل الأسود بالطحينة الحمراء، وبالجينة القديمة بالمش الرهيب، كانت الأيام هنية، والعيشة رخيصة، والفرن يشبع الجوعى.وفى المحماة تدفس ستى حبات البطاطا الحمراء، والبطاطس البيضاء، لا تخلط بينهما أبدا، وقدر الفول المدمس، قدر أسود، وفوقه كف عدس بجبه يزيده طعما محببا، وقبل أن ينتهى يوم الخبيز وتخمد نار الفرن تلقى بعدين او ثلاثة من الذرة الخضراء لتشويها، و”العد” أربعة أكواز ذرة لبنية، يكاد ينبثق لبنها من حباتها، طعمها عسل، هكذا تعقب جدتى بعد قضمة من كوز الذرة تخلعه من غلافته، تتذوقه أولاً، خشية يكون ماسخاً، وأكواز الذرة عادة يتسلون بها بعد عشاء الخميس فى دفء وحبور، وبعدها ننام فوق ظهر الفرن مستمتعين بالدفء خشية برد الشتاء .