بقلم اللواء الدكتور وائل زكريا:
في ظل الأوضاع المتوترة التي تعصف بسوريا والمنطقة، تبرز تداعيات التغيرات الميدانية والسياسية على الساحة السورية، خاصة مع إعلان قوات المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام تشكيل حكومة انتقالية، كعامل من شأنه إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط. هذه التطورات لم تأتِ من فراغ، بل تعكس حالة من التخبط في الاستراتيجية الروسية التي يقودها الرئيس فلاديمير بوتين، والذي ارتكب سلسلة من الأخطاء القاتلة، قد تكون عواقبها أشد وطأة من مجرد خسارة نفوذ مؤقت، لتصل إلى تمزيق شبكة روسيا الإقليمية بشكل غير مسبوق.
منذ تدخل روسيا في الحرب السورية عام 2015، راهن بوتين على تحقيق مكاسب استراتيجية تعزز مكانة موسكو كلاعب دولي أساسي في الشرق الأوسط. لكن الواقع اليوم يشير إلى عكس ذلك؛ فروسيا باتت في موقف حرج نتيجة سلسلة من الحسابات الخاطئة التي طغى عليها التسرع والاستناد إلى حلفاء ضعفاء وهشين. ولعل التطورات الأخيرة تسلط الضوء على أربعة أخطاء استراتيجية بارزة، ساهمت في تهديد المشروع الروسي بالمنطقة.
الخطأ الأول: القضاء على يفغيني بريجوزين
في أغسطس الماضي، اتخذ بوتين قرارًا حاسمًا بالقضاء على يفغيني بريجوزين، قائد مجموعة فاغنر شبه العسكرية، عقب الانقلاب الفاشل الذي قاده الأخير. وعلى الرغم من أن بوتين كان يرى في هذه الخطوة ضرورة لإعادة فرض السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية، إلا أن التداعيات كانت كارثية.
بريجوزين لم يكن مجرد قائد ميداني أو أداة عسكرية، بل كان بمثابة رأس الحربة في تحقيق الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط وأفريقيا. فقد لعبت فاغنر دورًا محوريًا في دعم العمليات العسكرية الروسية، ونجحت في تعزيز النفوذ الروسي من خلال السيطرة على الموارد الاقتصادية وعمليات التهريب، إلى جانب قدرتها على شن حملات التضليل الإعلامي التي لطالما كانت فعّالة في تشويه خصوم موسكو وتعزيز حضورها.
الأخطر من ذلك أن بريجوزين ابتكر آليات مالية معقدة ساهمت في التهرب من العقوبات الغربية، خاصة من خلال التنسيق مع الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية. ومع اختفائه، خسرت روسيا أداة استراتيجية لجمع المعلومات الاستخباراتية وتوجيه عملياتها السياسية والاقتصادية عبر شبكة مترامية الأطراف. في نهاية المطاف، كشف القضاء على بريجوزين عن حالة من الاضطراب الداخلي داخل النظام الروسي، ما قوّض هيبته أمام حلفائه الإقليميين.
الخطأ الثاني: تحويل سوريا إلى مركز لوجستي لعمليات غير مشروعة
بالتزامن مع تصاعد الضغوط الغربية، وجد بوتين في سوريا ملاذًا آمنًا لتنفيذ عمليات التهريب والأنشطة غير المشروعة التي أصبحت ضرورة لدعم الاقتصاد الروسي وتمويل حربه في أوكرانيا. لكن هذا التحول الاستراتيجي لم يأتِ دون تكلفة؛ إذ أصبحت القواعد الروسية في سوريا، خاصة تلك الواقعة في مدينة اللاذقية الساحلية، محورًا لعمليات تهريب الذهب والموارد.
ووفقًا لتحقيق نشرته شبكة سي إن إن، أجرت طائرة عسكرية روسية 16 رحلة بين السودان وسوريا، لنقل كميات ضخمة من الذهب إلى قاعدة اللاذقية، لتأمين مصدر مالي حيوي للعمليات الروسية. هذه الاستراتيجية جعلت موسكو تعتمد بشكل شبه كلي على سوريا كقاعدة لوجستية، وهو ما كشف نقاط ضعف خطيرة.
الجانب الآخر من المشكلة يتعلق بطبيعة النظام السوري نفسه. فبشار الأسد، الذي يدعمه بوتين عسكريًا وسياسيًا، حوّل سوريا إلى “دولة مخدرات”، حيث يعتمد نظامه على إنتاج وتهريب المواد المخدرة مثل الكبتاغون كمصدر أساسي للإيرادات. هذا الواقع قاد إلى أزمة دبلوماسية، خاصة مع دول الخليج العربي، التي وضعت شرطًا أساسيًا للتطبيع مع دمشق يتمثل في تفكيك شبكات تهريب المخدرات.
إخفاق نظام الأسد في تحقيق هذا الشرط أظهر عمق الفساد وانعدام الكفاءة الذي يعاني منه، مما زاد من عبء روسيا، التي باتت شريكة لنظام غير موثوق وغير قادر على الإصلاح. وبالتالي، أصبحت استراتيجية بوتين في سوريا رهينة لتحالف ضعيف يهدد بتقويض مكتسباته الإقليمية.
الخطأ الثالث: التقليل من قوة تركيا
من بين أبرز الأخطاء التي ارتكبها بوتين كان الاستخفاف بدور تركيا وقدرتها على التأثير المباشر في التوازنات الإقليمية. منذ تدخلها في الملف السوري، أظهرت أنقرة قدرة استثنائية على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، سواء من خلال التدخل العسكري المباشر، أو عبر دعم الفصائل المعارضة لنظام الأسد.
في الوقت الذي تراهن فيه روسيا على دعم الأسد لإحكام سيطرتها، كانت تركيا تعمل على إضعاف النظام ودفعه نحو تسوية سياسية تضمن مصالحها، خاصة فيما يتعلق بمعالجة أزمة اللاجئين وحماية حدودها من التهديدات الأمنية. بوتين، الذي كان يتوقع أن تتراجع أنقرة أمام الضغوط الروسية، فوجئ بإصرارها على فرض معادلة جديدة في سوريا.
اليوم، ومع صعود قوى المعارضة وتشكيل حكومة انتقالية، يبدو أن تركيا أصبحت الفاعل الأبرز القادر على التأثير في مستقبل سوريا والمنطقة. هذا الواقع فرض على روسيا إعادة حساباتها، خاصة أن أنقرة أثبتت قدرتها على التحرك بمرونة وبأدوات فاعلة تجعلها خصمًا صعب المراوغة.
الخطأ الرابع: الاعتماد المفرط على إيران ووكلائها
تُعد إيران الشريك الأبرز لروسيا في سوريا، حيث وفرت طهران دعمًا عسكريًا وماليًا كبيرًا لنظام الأسد، وشاركت بميليشياتها ووكلائها في المعارك إلى جانب القوات الروسية. لكن هذا التحالف يحمل في طياته مخاطر استراتيجية، نظرًا لضعف النظام الإيراني وتزايد الضغوط عليه.
إسرائيل، من جانبها، نجحت في استهداف الوجود الإيراني في سوريا بشكل ممنهج، وشنّت ضربات جوية دقيقة استهدفت مخازن الأسلحة وقواعد الميليشيات التابعة لإيران، مثل حزب الله. هذه الهجمات كشفت هشاشة الاعتماد الروسي على وكلاء طهران، وأظهرت محدودية قدرتهم على حماية المصالح الروسية في حال تصاعد المواجهة مع إسرائيل أو القوى الإقليمية الأخرى.
خاتمة: هل يواجه بوتين نهاية نفوذه الإقليمي؟
إن الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها بوتين في سوريا، بدءًا من القضاء على يفغيني بريجوزين، ومرورًا بتحويل سوريا إلى مركز للأنشطة غير المشروعة، وانتهاءً بالاستخفاف بدور تركيا والاعتماد على شريك ضعيف مثل إيران، تُنذر بتداعيات خطيرة على النفوذ الروسي في المنطقة.
اليوم، ومع صعود قوى المعارضة السورية، وتزايد الضغوط الدولية والإقليمية، يبدو أن شبكة النفوذ التي بناها بوتين على مدى سنوات باتت مهددة بالانهيار. هذه التطورات تضع روسيا أمام اختبار حقيقي لمكانتها كقوة مؤثرة في الشرق الأوسط، وتدفعها إلى إعادة تقييم استراتيجيتها قبل أن تخسر كل شيء.