في مشهد لافت وثق فريق قناة سي.إن.إن. بالعربي الأمريكية، لحظة دخولهم إلى سوريا يوم 8 ديسمبر من خلال معبر على الحدود السورية دون أي تواجد للجنود أو الحرس بعد انهيار نظام الأسد وسيطرة قوات المعارضة على المدن السورية الكبرى، هذا المشهد الذي ظهرت فيه سيارات أخرى تعبر الحدود إلى سوريا يطرح تساؤلات جديدة بخصوص ما يجري الآن في سوريا من استهداف لقدراتها العسكرية المادية والبشرية من قبل الجيش الإسرائيلي دون أي إدانة عربية أو دولية. من الواضح أن أولويات القادة الجدد في سوريا تنحصر في إسقاط قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تسيطر على المناطق الكردية في أقصى شمال شرق سوريا، حيث تدور اشتباكات عنيفة حول مدينة منبج القريبة من الحدود التركية، فيما تعمل إسرائيل على توسيع سيطرتها في عمق الأراضي السورية خصوصاً في ريف القنيطرة على مرتفعات الجولان.يعطينا هذا المشهد مؤشرات لاحتمالات دخول قوات للعمليات الخاصة إلى سوريا لتنفيذ العمليات التي استهدفت العديد من العلماء السوريين، على نحو يشير إلى أن إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية المادية وحدها وإنما تستهدف أيضا البنية العسكرية البشرية. ففي تقرير نشره موقع أبو الهول الإخباري، أشار إلى تتوالى عمليات الاغتيال التي تستهدف العلماء والخبراء السوريين، بشكل ممنهج ولافت للانتباه، في العاصمة دمشق وفي مدن سورية أخرى، استهدفت الدكتورة زهرة الحمصية، عالمة الميكروبيولوجي، التي عثر عليها مقتولة في منزلها، واغتيل الدكتور حمدي ندى، أحد علماء الكيمياء العضوية السوريين البارزين، الذي اشتهر بإسهاماته في صناعة الأدوية السورية، و عالمة الفلك السورية العالمية شادية حبال، التي قتلت مع زوجها في دمشق وتم الاستيلاء على أبحاثها العلمية، والهدف واضح وراء هذه العمليات التي يصعب تنفيذها بدون الحصول على معلومات دقيقة عن أماكن تواجد هؤلاء العلماء، فمن أعطى الجهات التي نفذت الاغتيالات هذه المعلومات؟كذلك يطرح استهداف المواقع العسكرية السورية في عملية نفذها الجيش الإسرائيلي أطلق عليها اسم “سهم الباشان” المستوحى من التوراة والتي دمر خلالها معظم القدرات العسكرية للجيش السوري. وأفادت تقارير إعلامية إسرائيلية بأن حملة القصف الواسعة التي استهدفت مواقع عسكرية ومخازن أسلحة استراتيجية على الأراضي السورية استمرت 48 ساعة، دمرت معظم القدرات العسكرية الاستراتيجية لنظام بشار الأسد، بزعم محاولة منع وقوع هذه الأسلحة المتقدمة في أيدي “عناصر معادية”، دون أن تحددها. وقال الجيش الإسرائيلي في بيان إن قواته البحرية والجوية نفذت أكثر من 350 ضربة ضد ما وصفته بأنه “أهداف استراتيجية” في سوريا منذ انهيار نظام الأسد وقضت على “معظم مخزونات الأسلحة الاستراتيجية في سوريا”. وقدّر الجيش أنه دمر ما بين 70 و80 بالمئة من القدرات العسكرية الاستراتيجية لسوريا والتي وصفها بأنها كان تخص النظام السابق. اللافت للنظر أنه لم يصدر أي بيان من القادة الجدد أو تركيا الراعية لهم بخصوص هذه التقارير المدعومة بصور ولقطات فيديو للقدرات التي تم استهدافها.ونشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي عبر حسابه على منصة “إكس”، فيديوهات تُظهر ما دمره الجيش الإسرائيلي خلال 48 ساعة من مخزونات الأسلحة الاستراتيجية خلال عملياته التي شملت أكثر من 350 ضربة في عموم سوريا جنوبا وشمالا وشرقا وغربا، وأشار إلى أن تدمير الجيش تلك الأسلحة الاستراتيجية يأتي “خشية سقوطها في يد عناصر إرهابية”، بما فيها “حزب الله” اللبناني، وأنه هذه الضربات الجوية التي شنها الحيش بطائرات حربية ومسيرات استهدفت بطاريات صواريخ أرض جو متنوعة، ومطارات سلاح الجو السوري والعشرات من أهداف مواقع الإنتاج المختلفة في مناطق دمشق، وحمص وطرطوس، واللاذقية وتدمر، و أنها دمرت صواريخ “سكود”، و”كروز”، وطائرات مسيّرة من دون طيار، وطائرات مقاتلة ومروحيات هجومية، ورادارات، ودبابات، وحظائر طائرات، صواريخ بحرية يبلغ مداها ما بين 80 و190 كيلومتراً، تهدد القطع البحرية المدنية والعسكرية في المنطقة. شنت البحرية الإسرائيلية غارات على خليج البيضا وميناء اللاذقية على الساحل السوري، أدت إلى تدمير 15 سفينة حربية سورية، ومخازن أسلحة، ومباني عسكرية، ومنصّات إطلاق صواريخ ومواقع إطلاق النار.اللافت أن إسرائيل التي كانت تشن بشكل متكرر تصاعد بعد حرب غزة غارات جوية على سوريا لم تستهدف في السابق أي من هذه القدرات العسكرية السورية التي كانت في عهدة نظام بشار الأسد، وإنما ركزت على شخصيات عسكرية ومستشارين إيرانيين ولبنانيين، ذهبوا إلى سورية بناء على طلب حكومتها لمساعدتها، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن إحجام إسرائيل التي سبق أن استهدفت قدرات متعلقة ببرامج سورية لتصنيع أسلحة كيماوية، عن استهداف تلك القدرات، الأرجح أن ذلك كان جزءاً من ترتيبات روسية إسرائيلية تحدد قواعد الاشتباك في سوريا، وأن هذه الترتيبات سقطت مع انتصار المعارضة السورية. إن رد فعل قادة سوريا الجدد بخصوص هذا الاستهداف يطرح الكثير من علامات الاستفهام بخصوص التوجهات المستقبلية لسوريا في ظل النظام الجديد إذا قدر له الاستقرار.ثمة تقارير وتقديرات إسرائيلية أفادت أن النظام الجديد في سوريا لا يرى في إسرائيل عدواً مباشراً، ومن الملاحظ أن التنظيمات الجهادية بدءاً من القاعدة وانتهاء بداعش لم ترى في إسرائيل عدوا مباشراً وإنما كان عداؤها الرئيسي للأنظمة الحاكمة والقوى الغربية الداعمة لها، رغم تأسيس أسامة بن لادن وأيمن الظواهري “الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين”، في عام 1998، قبل أعوام قليلة من هجمات 11 سبتمبر 2001، وعلى الرغم من ربط كثير من تيارات الإسلام السياسي التي انبرت للدفاع عن المعارضة السورية المدعومة من تركيا، بين التغيير في سوريا وبين عملية طوفان الأقصى، التي يرون أنها تبشر بتحولات إقليمية ودولية جديدة لن يكون لإسرائيل وحلفائها الإقليميين والدوليين مكان. لم نسمع إلى الآن أي خطاب داعم من المعارضة المنتصرة في سوريا ولا من تركيا، القوة الرئيسية التي تقف وراءهم، ولكن سمعنا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومن قادة آخرين في إسرائيل وفي مراكز تفكير غربية حديثاً عن شرق أوسط جديد بدون إيران ومحور المقاومة الذي تدعمه، وربما كان العداء لإيران وجماعة حزب الله اللبناني، قاسماً مشتركاً بين القادة الإسرائيليين وقادة المعارضة السورية الذين أطاحوا بالأسد، على نحو يشير إلى التوافق الموضوعي بينهما.بعيداً عن السيناريو البعيد الخاص بمستقبل الشرق الأوسط ووضع أسس هذا المستقبل في الوقت الراهن، لا بد من تقدير دقيق للوضع الذي مكن إسرائيل من استهداف القدرات العسكرية السورية ولم يوفر ترتيباً بديلاً للتفاهمات الروسية الإسرائيلية على قواعد الاشتباك، وفي هذا الأمر تتحمل تركيا مسؤولية تاريخية أمام شعوب المنطقة، وبالرغم من هذا لا يزال كثير من الإسلاميين السذج ومن لف لفهم يراهنون على المشروع التركي، مثلهم مثل المراهنين السابقين على المشروع الإيراني، وفي الحالتين تتمكن إسرائيل من تحقيق مكاسب وتفرض حقائق جديدة على الأرض، وهناك أطراف عربية تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في الترتيبات الجديدة والحصول على نصيب من كعكة الشرق الأوسط، على حساب الشعوب العربية ومصالحها، بعد أن سقطت البلدان العربية من الحسابات المتعلقة بموازين القوى الإقليمية بسبب أولويات حكوماتها التي لا يهمها شيئا سوى التسلط على الشعوب التي تحكمها.