بقلم صموئيل العشاي
عندما أكتب عن الدكتور ثروت باسيلي، لا أكتب عن رجل أعمال ناجح أو ملياردير قبطي ترك بصمة في الاقتصاد فقط؛ بل أكتب عن شخصية استثنائية، عن قديس معاصر عاصرته بنفسي ورأيت عطاياه التي لم تكن تفرق بين إنسان وآخر، مسلمًا كان أو مسيحيًا.
كان الدكتور ثروت باسيلي نموذجًا متفردًا للإنسان الذي وهب حياته لخدمة الآخرين. لم يكن مجرد صاحب شركات أو رجل من رجال المال والأعمال، بل كان مصدرًا للأمل لكثيرين ممن لم يجدوا يدًا تمتد إليهم في أوقات أزماتهم. كنت شاهدًا على مواقفه النبيلة، عندما كنت ألجأ إليه لطلب المساعدة في علاج حالات مرضية مستعصية، وكان دائمًا يرد بابتسامة واثقة: “اكتب اسمي فقط، وأنا أتكفل بالباقي.”
لم يكن يطلب الشهرة أو الثناء؛ كان يسير في طريق الخير خفية، باحثًا عن المحتاجين ليغدق عليهم برعايته. كان مكتبه وجهة كل من أثقلتهم الأعباء، حيث يجدون فيه صدرًا رحبًا وأذنًا صاغية ويدًا ممدودة بالخير.
رحلة كفاح بدأت من الصفر
وُلد الدكتور ثروت باسيلي في 14 سبتمبر 1940، ونشأ في أسرة بسيطة، لكنه استطاع أن يشق طريقه بإرادة لا تعرف المستحيل. حصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة القاهرة عام 1961، وبدأ حياته المهنية بإدارة صيدلية صغيرة في مدينة أسوان. ومن هذه الصيدلية المتواضعة، انطلق ليبني إمبراطورية اقتصادية ضخمة كانت من أبرز إنجازاتها تأسيس شركة “آمون للأدوية”، التي أصبحت علامة فارقة في صناعة الدواء في مصر.
لم يكن نجاحه هذا مصادفة، بل كان نتاج رؤية بعيدة المدى وعمل دؤوب. ورغم كل النجاحات، ظل باسيلي ذلك الإنسان البسيط المتواضع، الذي لم ينسَ جذوره ولم يبتعد عن رسالته الإنسانية.
رجل وطن وقلب مليء بالعطاء
لم يقتصر دور الدكتور ثروت باسيلي على تحقيق النجاح الشخصي، بل كان دائمًا حريصًا على رد الجميل لوطنه. عُين عضوًا بمجلس الشورى، وشغل مناصب عديدة، من بينها وكيل لجنة الصحة ورئيس شعبة الأدوية باتحاد الصناعات المصرية. ومن خلال هذه المواقع، كان مدافعًا شرسًا عن حقوق الجميع، مسلمًا كان أو مسيحيًا، متجاوزًا كل الحواجز الطائفية.
كان باسيلي نموذجًا فريدًا لرجل الأعمال الذي جعل من نجاحه وسيلة لخدمة الآخرين. ساهم في تأسيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، وأطلق قناة “سي تي في” لتكون صوت الكنيسة القبطية.
رجل الدفاع عن الأقباط ومثال للعقلانية
كان الدكتور ثروت باسيلي صوتًا عاقلًا وسط الضجيج، وجرأته في الدفاع عن قضايا الأقباط كانت مدعومة بعقلانية شديدة. عندما كانت الكنيسة تواجه تحديات كبيرة، كان باسيلي دائمًا في الصفوف الأمامية، يدافع عن حقوق أبناء طائفته بحكمة وشجاعة.
صديق البابا شنودة الثالث وشهادة الوفاء
كانت علاقته بالبابا الراحل شنودة الثالث علاقة استثنائية، حيث كان أحد أقرب مستشاريه وأصدقائه. كان يقول دائمًا عن عصر البابا شنودة: “لو قارنا عصره بالعصور السابقة لوجدنا أنه عصر ذهبي بكل المقاييس. فالنشاط الروحي والرهباني والتقدم المعماري في الكنيسة يفوق الوصف.”
عطاء بلا حدود في المهجر وفي الوطن
بعد صعود الإخوان للحكم في عام 2012، اضطر الدكتور ثروت باسيلي وعائلته لمغادرة مصر والاستقرار في شيكاغو، لكنه ظل على اتصال بوطنه وقلبه معلقًا به. ومع سقوط حكم الإخوان في 2013، عاد إلى مصر ليواصل رسالته في العطاء والخدمة.
وفاته ورثاء الوطن والكنيسة له
في 5 ديسمبر 2017، رحل الدكتور ثروت باسيلي عن عالمنا بعد معاناة مع المرض. كانت وفاته خسارة كبيرة للوطن والكنيسة، حيث نعاه البابا تواضروس الثاني بكلمات مؤثرة قال فيها: “قدم خدمات جليلة للوطن والكنيسة، وكان شخصية بارزة خدم في العديد من القطاعات، ولم يفرق يومًا في عطائه بين مسلم ومسيحي.”
قديس معاصر وعبرة للأجيال
لقد كان الدكتور ثروت باسيلي بحق قديسًا معاصرًا. لم يكن رجل دين، لكنه جسد روح القداسة في أفعاله. كان يحمل همّ المحتاجين والفقراء على عاتقه، ويسعى لتخفيف معاناتهم دون انتظار مقابل. كان رمزًا للتواضع والعطاء، وسيظل اسمه خالدًا في ذاكرة كل من عرفه أو استفاد من عطائه.
رحل عن عالمنا، لكنه ترك إرثًا خالدًا من الإنسانية والنجاح. ولنا أن نقول بكل ثقة إن ثروت باسيلي لم يكن مجرد رجل عادي، بل كان رجلًا صنع مجدًا للآخرين قبل أن يصنعه لنفسه، واستحق أن يكون قديسًا معاصرًا يشهد له كل من عاصره.