في وسط الأحداث المتسارعة التي يشهدها العالم، وبينما تسعى الأطراف المتصارعة لفرض رواياتها على الشعوب، تصل أحيانًا شهادات حية تحمل بين سطورها حقائق صادمة، تُميط اللثام عن خفايا تُخفى بعناية خلف كواليس السياسة والجيوش.
اليوم، أنشر بين أيديكم اعترافًا خطيرًا وصلني من أحد المهمين عن ما ذكره احد الضباط الإسرائيليين الذين قرروا كسر الصمت والهروب من آلة الحرب، بعد أن فاض به الكيل من الجرائم والانتهاكات التي شهدها بعينه.
النقيب “إلياهو نداف”، ضابط في الجيش الإسرائيلي، يروي في هذه الرسالة تفاصيل دقيقة عن حياته، والسبب الذي دفعه للهروب من إسرائيل وطلب اللجوء السياسي في إحدى الدول العربية. إنها شهادة تحمل في طياتها حقائق مُرّة عمّا جرى خلف الستار بعد الهجوم الكبير الذي نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، وعن الرد الإسرائيلي الذي وصفه بنفسه بأنه “يفوق محارق هتلر”.
أضع هذه الكلمات كما وصلتني، لتكون وثيقة تاريخية وشهادة حية على أحداث تهزّ الضمير الإنساني.
أنا النقيب “إلياهو نداف”: هربتُ من إسرائيل يوم الأربعاء، المصادف 10 تموز 2024، وطلبت اللجوء السياسي في إحدى الدول العربية التي لا تربطها أي علاقات مع إسرائيل. لم يكن هروبي وليد اللحظة أو مجرد قرار عابر؛ بل كان نتاج صراع داخلي مرير بين الواجب العسكري والقيم الإنسانية. في هذا النص، سأروي حكايتي بكل تفاصيلها، لتكون شهادة حيّة على ما يجري خلف الكواليس في الجيش الإسرائيلي.
البداية: حياة عادية في حيفا
اسمي: إلياهو إسحاق نداف، ولدتُ عام 1986 في مدينة حيفا، لعائلة يهودية متوسطة الحال.
• والدي، إسحاق نداف، كان أستاذًا جامعيًا في قسم الجغرافيا بجامعة حيفا، وهو يهودي من أصول مغربية. كان والدي دائم الحديث عن أهمية العلم والثقافة، وكان يعتبر إسرائيل “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط.
• والدتي، راشيل ليبرمان، يهودية من أصول مجرية. عملت رئيسة ممرضات في مستشفى “بناي تيسون” بحيفا. كانت أمي نموذجًا للعطاء المهني، لكنها في الوقت ذاته كانت تؤمن إيمانًا أعمى بالدعاية الرسمية الإسرائيلية.
لي أخت واحدة، اسمها “إيمي”، وهي متزوجة من أسترالي وتعيش معه في أستراليا. علاقتي بها كانت قوية، لكن اختلاف رؤيتنا للحياة، وخاصةً بعد انخراطي في الجيش، خلق نوعًا من الفجوة بيننا.
التحاقي بالجيش: بداية التحول
في عام 2004، التحقتُ بالكلية العسكرية الإسرائيلية، مدفوعًا بفكرة “خدمة الوطن” التي كانت تُزرع فينا منذ الصغر. تخرجت عام 2006 برتبة ملازم ثانٍ، وكان يُنظر إليّ كأحد الضباط الواعدين. عملتُ في مخازن العتاد الحربي، وهو موقع حساس يُعتبر عصب العمليات العسكرية.
لم أكن متزوجًا، وكرّست حياتي للعمل. كنت أؤمن حينها بأن إسرائيل تواجه تهديدات وجودية، وأن جيشنا هو السد المنيع أمام هذه التهديدات.
الهجوم على غزة: صدمة بلا مثيل
7 أكتوبر 2023 كان اليوم الذي غيّر حياتي للأبد. عندما شنت حركة حماس هجومها المفاجئ، كنت أعمل في مخازن العتاد الحربي. صُدمتُ، كما صُدم الجميع، من حجم العملية ودقتها.
لقد درستُ تاريخ الحروب الإسرائيلية في الكلية العسكرية:
• حرب عام 1948 (التي نُسميها “حرب التحرير”)
• حرب 1956
• حرب 1967
• حرب 1973
• حرب لبنان 1982
• حرب حزب الله 2006
لكن عملية حماس كانت مختلفة تمامًا. لقد كانت عملية خارجة عن كل الحسابات العسكرية والاستخباراتية. القادة السياسيون والعسكريون لم يفيقوا من الصدمة إلا بعد ثلاثة أيام كاملة.
بعد استيعاب حجم الكارثة، جاء القرار السياسي: “مسح غزة بالكامل دون أي رحمة أو اعتبارات.”
الآلة العسكرية: دعم غير مسبوق
فُتحت أمام إسرائيل كل مستودعات السلاح والعتاد في دول العالم:
• الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، السويد، البرتغال، إيطاليا، فنلندا، بلغاريا، رومانيا، المجر، وبولندا.
كما وضعت القواعد الأمريكية في:
• قطر، البحرين، الكويت، الأردن، المغرب، والإمارات
والقواعد البريطانية في:
• قبرص، جبل طارق، والكويت
تحت تصرف إسرائيل.
كانت الطائرات تصل إلى إسرائيل كل ثلاث ساعات محملة بالسلاح من الولايات المتحدة، بينما كانت طائرتان يوميًا تصلان من الدول الأوروبية الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، كانت السفن تصل كل ثلاثة أيام من أمريكا وكل أسبوع من فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
حجم العتاد المستخدم:
• حسب سجلات المستودعات، تم استخدام أكثر من 139 ألف طن من العتاد الحربي.
• من بين ذلك، 19 ألف طن من القنابل التي تزن الواحدة منها 995 كيلوغرامًا من المتفجرات شديدة الانفجار “المهداد.”
اللحظة الفاصلة: انهيار القيم الإنسانية
كانت التعليمات واضحة: “لا تبقوا على شيء في غزة، لا بشر ولا حجر.”
حينها، شعرتُ أنني لم أعد إنسانًا. شاهدت بأم عيني كيف تحولت غزة إلى ساحة حرب لا تعرف الرحمة. ما فعلناه في غزة كان شيئًا لم يفعله حتى هتلر في محارق اليهود.
قرار الهروب: البحث عن الخلاص
بحلول شهر حزيران 2024، وصلت إلى قناعة بأنه لا يمكنني الاستمرار في هذه الآلة الحربية. لكن الهروب لم يكن سهلاً، فأنا ضابط في الجيش الإسرائيلي، ولا أملك جواز سفر.
في 14 حزيران 2024، أُبلغتُ أنا وعدد من زملائي أننا سنسافر إلى المغرب للإشراف على شحن عتاد حربي من مركز العتاد الأمريكي في طنجة. كنا تسعة ضباط بقيادة العقيد “يوسي هارفي.” تم تزويدنا بجوازات سفر مغربية مؤقتة.
الهروب من المغرب: مغامرة محفوفة بالمخاطر
وصلنا إلى المغرب على متن طائرة شحن أمريكية إلى قاعدة قرب الدار البيضاء. هناك استقبلتنا المخابرات المغربية ونقلتنا إلى فيلا على البحر. في اليوم التالي، نُقلنا إلى قاعدة طنجة، التي كانت تُدار من قبل ضباط أمريكيين ومغاربة.
في طنجة، ادعيتُ المرض، وذهبت إلى المستشفى، ومن هناك نفذت خطتي للهروب. استعملت جواز سفري المغربي وسافرت إلى بلد عربي، حيث طلبت اللجوء السياسي.
الوصول إلى بر الأمان: شهادة للتاريخ
عند وصولي، طلبت مقابلة مسؤول أمني في المطار. بعد التحقيق معي لأكثر من خمس ساعات، مُنحت حق اللجوء السياسي، وأُعطيت هوية عربية جديدة.
اليوم، أقولها بكل صراحة: ما فعلناه في غزة كان جريمة بحق الإنسانية. نحن مجرمون وقتلة، وهذه هي الحقيقة التي يجب أن يعرفها العالم.