#صباح_الخير_يارجائي
لم يكن بيني وبين ارتداء الفساتين انسجام يذكر لفترة طويلة من حياتي. كانت خياراتي في الملابس محدودة، اقتصرت على البلوزة والجيبة، وغالبًا بلا تفاصيل تلفت الأنظار. كانت الألوان باهتة، بلا أقمشة فاخرة أو تصاميم جريئة، وكأنني أختبئ خلف البساطة لتجنب أي تفاعل مع الموضة أو الأناقة. كان الأمر انعكاسًا لمرحلة طويلة من حياتي، أعيش فيها ضمن حدود المألوف دون التفكير في كسرها.
لكن كما يحدث أحيانًا، يضع القدر أمامك فرصة، فتجد نفسك أمام تجربة جديدة تغير نظرتك لكل شيء. هذه التجربة جاءت من خلال صدفة قادتها جارة أمي، التي نصحتني بالذهاب إلى خياطة تُعرف بمهارتها الاستثنائية، رغم أن مكانها في منطقة بعيدة ومتواضعة في أزقة السيدة عائشة. في البداية، ترددت. هل أذهب؟ هل أبحث عنها في هذا المكان البعيد؟ لكن المغامرة كانت تنتظرني.
البداية: لقاء مع “عنبة”
كان اسمها بسيطًا مثل روحها: “عنبة”. وفي عالم مليء بالأسماء المزخرفة، كان هذا الاسم يحمل عفوية عميقة وبساطة ساحرة. عندما وصلت إلى ورشتها الصغيرة، شعرت أنني أخوض تجربة مختلفة. المكان بسيط للغاية، لكنه يعج بالحياة. من ماكينة الخياطة القديمة إلى طاولة العمل التي تبدو كأنها شاهدة على قصص كثيرة، كان كل شيء يشير إلى أن هذه المرأة تصنع السحر من أشياء بسيطة.
“عنبة”، أو كما تحب أن تُنادى بـ”أم طارق”، لم تكن مجرد خياطة عادية. كانت امرأة شعبية تحمل في داخلها إبداعًا فطريًا لم تكتسبه من مدارس تصميم أو أكاديميات موضة، بل من حس فني صادق وبديهة مدهشة. عندما أخبرتها أنني لا أرتدي الفساتين، لم تُبدِ أي اندهاش. اكتفت بابتسامة ودودة وقالت جملتها الشهيرة التي ما زالت عالقة في ذهني: “جربي، وعلى ضمانتي.”
أول تجربة: ولادة جديدة
بدأت “عنبة” في اختيار القماش والموديل بعناية، وكأنها تفهمني أكثر مما أفهم نفسي. اختارت لونًا جريئًا لم أكن أتخيل نفسي أرتديه، وأصرّت على تصميم بسيط لكنه راقٍ. عندما ارتديت أول فستان صنعته لي، شعرت أنني شخص جديد. لم يكن مجرد قطعة ملابس؛ كان عملاً فنيًا يعكس شيئًا أعمق داخلي، شيئًا كنت أبحث عنه منذ سنوات.
في تلك اللحظة، أدركت أن الملابس ليست مجرد وسيلة لتغطية الجسد، بل لغة نعبر بها عن أنفسنا، عن أحلامنا وشخصيتنا. أصبح كل ما أرتديه بعدها يعكس جزءًا مني، بفضل “عنبة” التي غيرت علاقتي بالألوان والأقمشة وحتى بالحياة نفسها.
التحول الكبير
لم تتوقف علاقتي بـ”عنبة” عند أول فستان. أصبحت هي خياطة المناسبات الكبرى في حياتي. قبل خطوبتي، حملت أقمشتي إلى ورشتها الصغيرة، وهناك أبدعت فستانين، كانا مثالاً للأناقة والبساطة في آن واحد. عندما ارتديتهما، شعرت بالفخر، خاصة بعد أن أثنى الجميع على جمالي وأناقتي.
لكن التحدي الأكبر كان يوم زفافي. كنت أنوي أن يكون فستان الزفاف من تصميم “عنبة”. كانت هذه المرأة قد أصبحت جزءًا من رحلتي، ومن المستحيل أن أستبدلها بشخص آخر. لكن ما حدث لاحقًا كان مختلفًا تمامًا.
من السيدة عائشة إلى طنطا: قرار صعب
قبل الزفاف بأيام قليلة، جاءت صديقتي “ليلى”، وهي صحفية وفنانة متمرسة، لتخبرني أن فستان الزفاف يجب أن يكون مختلفًا. نصحتني بالتعامل مع ترزي محترف يقيم في طنطا، مؤكدة أن “عنبة” قد تكون مبدعة في الفساتين العادية، لكنها ربما لا تملك الخبرة الكافية لتصميم فستان زفاف فخم.
شعرت بقلق شديد. كيف يمكنني أن أترك “عنبة”، التي كانت مصدر ثقتي وإلهامي؟ حاولت إقناع “ليلى” أنني راضية تمامًا بعملها، لكنها أصرّت. قالت بحزم: “فستان الزفاف ليس كأي فستان. يجب أن يكون فخمًا، ويليق بيومك الكبير.”
ورغم ترددي، وجدت نفسي على متن قطار متجه إلى طنطا. كانت الرحلة طويلة، ليس فقط بسبب المسافة، بل لأنها كانت تحمل في طياتها صراعًا داخليًا بين الولاء لـ”عنبة” والخوف من خوض تجربة جديدة.
النهاية: دروس لا تُنسى
رغم أن فستان الزفاف لم يكن من تصميم “عنبة”، إلا أنني لم أنسَ فضلها في تشكيل ذوقي وثقتي بنفسي. كانت تلك المرأة الشعبية البسيطة، بماكينتها القديمة ومقصها الذهبي، نقطة تحول في حياتي. تعلمت منها أن الأناقة ليست في الفخامة، بل في الإبداع.
اليوم، عندما أرتدي أي فستان، أشعر أن “عنبة” حاضرة بروحها وابتسامتها البسيطة. إنها ليست مجرد خياطة؛ إنها رمز للبساطة والموهبة التي تغير الحياة.
#وحشتني_يارجائي
… وللحديث بقية.