#صباح_الخير_يا_رجائي
دقات خفيفة على باب الشقة في صبيحة اليوم الأول للزواج، نظرنا لبعضنا مندهشين وقلنا في صوت واحد:
معقول بدري قوي كده؟!
كان منطقيًا أن تكون ماما أول الزائرين كعادة الأمهات المصريات في صبيحة زواج بناتهن، إنه يوم “الصباحية”، رغم توصياتنا لها أمس ألا تتعب نفسها بقطع هذا المشوار لزيارتنا ويكفيها ما قامت به خلال ماراثون زواجنا. أسرعنا نفتح لها الباب.
كانت وسائل المواصلات في ذلك الزمن، سنة 1985، مرهقة، فلم يكن المترو الحالي موجودًا، وكان هناك القطار القديم الممتد من باب اللوق إلى حلوان بأبوابه وشبابيكه العتيقة المفتوحة على الفضاء الخارجي وصوت نفيره المرعب وهو يسير على القضبان. تم تأسيسه على يد الخديوي إسماعيل منذ أكثر من قرن ونصف، بإصداره فرمانًا سنة 1870 بإنشاء سكة حديد حلوان لتشجيع المصريين على السكنى في حلوان وتيسير الانتقال من القاهرة إلى الضاحية الجديدة، وتم الانتهاء من السكة الحديدية تمامًا سنة 1877.
بدأ خط حلوان كقطار بخاري قبل أن يتحول لاحقًا إلى مترو كهربائي في ثمانينيات القرن العشرين. لقد كان لهذا القطار الفضل في إنشاء ضاحية المعادي، وشاءت الأقدار أن تلعب حلوان والمعادي دورًا في مشوار حياتنا.
كانت عربات قطار حلوان في بدايتها تتكون من صالونات، كل صالون يتكون من كنبتين متقابلتين ومغلق على الصالون باب يفصله عن بقية الصالونات. لم نحظَ للأسف بركوب القطار القديم بأبهته، ولكن وقع نصيبنا مع القطار المهترئ الذي وصل إلى مرحلة من الإهمال والتدهور، كانت مؤلمة حقًا.
ولكن، إحقاقًا للحق، أعترف أنه رغم كل هذه المعاناة، صممنا على السكنى في مايو، التي صارت ضاحية لحلوان، والتي بدأت هي نفسها كضاحية للقاهرة.
لم تكن الرحلة إلى بيتنا تتوقف عند وصول القطار إلى حلوان، بل كان على القادم لزيارتنا أن يبحث عن وسيلة مواصلات ثانية يكمل بها المشوار من حلوان إلى مايو. هذا الطريق قطعه كثيرون لأجلنا، محبة وودًا، فتلاشت مسافات المكان أمام مسافات الحب والصداقة.
وصلنا إلى الباب، فتحناه… دققنا النظر، لم تكن أمي، بل وجدنا رجلًا مسنًا تملأ وجهه ابتسامة بريئة، مادًّا يده بأصيص زهر صغير، وقال بلا مقدمات:
إنتوا السكان الجداد؟ وأكمل بلا انتظار: شكلكم عرسان. وواصل كأنه يعرفنا من قبل:
زهرية ورد عشانكم. أنا لمحت هذا الصباح شباكًا مفتوحًا فعرفت أن العمارة بدأت تُسكَن. واستمر يثرثر ونحن ننظر له بفرح، فدعوتَه للدخول، فتراجع للخلف معتذرًا بضرورة اللحاق بعمله في الجنينة المحيطة ببيتنا. لكنك مددت يدك وسحبته من يده وقلت له: هنشرب شاي معاك يا راجل يا عجوز. شاي صعيدي، ولا على ميه بيضا، ولا شاي بلبن؟ فقال بتلقائية:
طبعًا شاي صعيدي. وسلمني أصيص الزهر وطلب مني أن أضعه على سور البلكونة حتى ينال حظه من الشمس.
أبهج زائرنا الأول قلبينا برقة مشاعره وبساطة مظهره وتصرفه، ودارت بيننا دردشات مختلفة ونحن نشرب الشاي، ونأكل حلوى العرسان التي جلبتها أمي.
حكى لنا عم صادق عن عمله في جنائن مايو، وبلده في الصعيد الجواني، وأولاده، وشرح لنا كيف نحافظ على النبتة التي أحضرها، وأكد أنها ورد بلدي لكنه ما زال برعمًا، سيتفتح قريبًا، ونحن وحظنا: يا يطلع لونه أحمر، أصفر، أو أبيض. غادر ولم تغادر الابتسامة وجهه، واعدًا أن يحمل لنا مزيدًا من الزهريات.
لقد كان لنا مع عم صادق حكايات، ومنذ ذلك الحين ظلت شبابيكنا وبلكوناتنا تحمل أصص الزهور والنباتات أينما عشنا.
الطريف أن سوسنة، وهي تقيم في مايو الآن، صار لها جنايني يهديها بين حين وآخر أصص نباتات تزين بها سور البلكونة والشبابيك. ربما لا يكون اسمه أيضًا عم صادق، لكن المؤكد أنه يُبهجها بزهوره اليانعة.
يا لها من بشارة سعيدة أرسلها لنا القدر مع عم صادق، أول زائرينا.
وما زال نوفمبر مستمرًا.
#وحشتني_يا_رجائي
… وللحديث بقية
2024/11/19