كان يوماً لن يُنسى، يوم اختلطت فيه المشاعر بين الفرح والدهشة والتوتر والضحك. وقفنا نودّع ضيوفنا بعد انتهاء حفل الزفاف، في منزل عائلتي الذي استقبلنا فيه لحظات جميلة ولا تزال تنبض بأصوات الأهل والأحبة. وبينما كان كل شيء يسير بهدوء، اكتشفنا فجأة أننا لم نرتب وسيلة لنقلنا إلى بيت الزوجية في مايو. كنا خلال فترة تجهيز الشقة معتادين على استخدام المترو، رحلة يومية تُحمّلنا بالكثير من الأحلام والطموحات، نتبادل فيها النظرات والابتسامات، نحلم بمستقبلنا الذي كان كل شيء فيه يدور حول الحب والتفاهم.
كانت المفاجأة مدهشة! كيف أغفلنا عن هذا الترتيب ونحن من كنا نحسب كل تفصيل؟ توالت علينا الأسئلة من الحاضرين، كلٌّ منهم يحاول فهم سبب هذا “النسيان”، وبالنسبة لنا كان الأمر طريفاً لحدٍ ما، رغم ما حمله من لحظات ارتباك بسيطة. أعجبتني كيف وقفت أنت، رجائي، ببرودك المرح، وحسمت الموقف بقرارك الفوري أننا سنستقل تاكسيًا. بدا الأمر وكأنه حل بسيط، لكنه حمل معه جرعة إضافية من الفكاهة حين قلت: “ولماذا لا نركب المترو؟” أتذكر تلك اللحظة جيداً، تبادلنا النظرات وضحكنا بصوت عالٍ، ضحكة شاركنا فيها الجميع، لتتبدد بذلك لحظة التوتر، وكأن العالم كله توقف عند هذا المزاح.
لكن ماما لم تكن على استعداد لتلقي هذا المزاح بسهولة، فهي كانت مشغولة بهمها الأكبر – “حلة الاتفاق”، تلك التي أعدّتها للعروسين بحبٍ واهتمام لا يوصف، مستغرقة يومين في تجهيز الأطباق المحمرة والمشوية، والمزينة بأشهى الأكلات. كانت لحظة حرجة، كيف سننقل كل هذا؟ كيف سنحافظ على تعبها ومجهودها وتقاليدها التي وضعتها نصب عينيها؟ كل هذا لم يكن ليهون عليها أن يُضيّع.
بينما كنا ننتظر التاكسي، تقدم أحد الضيوف، بكل حُب وكرم، وأصر على توصيلنا بسيارته إلى مايو، هو وزوجته، وهي إحدى قريبات أمي. رفضنا بأدب، لكنه لم يقبل اعتذارنا، وتمسكت ماما بعرضه كونه وسيلة آمنة لنا. ابتسمت وهي تقول: “أنتم ساكنين في مكان مقطوع عن العمار، والدنيا ليل، والوقت تأخر بكم.” كانت حريصة علينا، وعرفتُ أنك تُقدّر ذلك في كل لحظة.
لاحقًا، عندما وصلنا، رأيتها تأخذك على جنب، وكان بينكما حديث هامس. تقدمت، وفضولي دفعني للسؤال: “بتوشوشوا في إيه؟” فقالت بسرعة: “يرضيك كده؟ رجائي رافض أحضر لكم الطعام في الأيام القادمة.” شعرت بأنها متأثرة، فقلت لها مُطمئنًا: “عنده حق، لا تتعبي نفسك، لقد أحضرتِ كميات تكفي قبيلة وليس شخصين فقط.” أكّدتَ أنت كلامي بحنانك المعتاد:
• “يسعدنا أن تنوري في أي وقت يا ماما، بشرط ألا تحملي معك أي شيء.”
لكنها، بعفويتها وارتباطها بالتقاليد، ردّت: “هذا هو العرف يا رجائي. لازم أهل العروسة يحضروا الأكل لها لمدة أسبوع.”
• “لكننا نعفيك من كل أعباء التقاليد والعرف والموروثات.”
• “والناس؟ ماذا سيقولون عنّا وعن والدتك؟”
ابتسمتُ لها وقلت:
• “سيقولون عنكِ كل خير. يكفي ما قدّمتِ لنا طوال الفترة الماضية وما أحضرتِه اليوم.”
• “دي حلة الاتفاق وواجب لابد أن تقوم به أم العروسة.”
• “لو كنتُ أعلم بهذا الأمر من قبل، كنتُ وفّرت عليكِ التعب.”
ردت بابتسامة دافئة: “أفعل ذلك بحب، وعقبال إخواتها البنات.”
• “لن تكلفي نفسك بعد اليوم أي شيء، ولن تقطعي كل هذه المسافة خصيصًا لإحضار طعام.”
• “أنت عريس مختلف، غيرك من العرسان يطلبون كل يوم أصنافًا من الطعام أشكالًا وألوانًا.”
• “هذا هو التصرف الطبيعي. أنا وخيرية راشدان، وقد بدأنا تأسيس حياة مستقلة بنا، ونستطيع تدبر أمرنا.”
حينها قبّلنا رأسها وودعناها وهي تدعو لنا بالسعادة وملامح وجهها مطمئنة، مطمئنة أن ابنتها في أيدٍ أمينة.
بعد رحيلهم، جلسنا نستعيد ذكريات اليوم، تلك اللحظات الصغيرة التي صنعت اليوم الاستثنائي. نظرتُ إلى السقف وقلت لك بهدوء: “لماذا تهتز النجفة في مكانها؟ أخشى أن تقع علينا.” كان ردّك سريعًا ومليئًا بالسخرية: “ده طلع كلامها صح! أنا كنت فاكر هي اللي خايفة.”
نظرتُ إليك متعجبة وقلت: “هي مين اللي خايفة؟”
فأجبتني بابتسامة واسعة: “النجفة طبعًا.”
ضحكتُ من كل قلبي، لكن خلف تلك الضحكة كانت كلمات ماما تتردد في أذنيك: “احفظها لأجلي.”
لقد استحلفتك ألا تزعلني أبدًا، وطمأنتها أنك ستكون عند حسن ظنها. ولكنك، بين الدعابة والجدية، علمتَ في تلك اللحظة أن كلماتها لم تكن مجرد طلب، بل كانت نبض قلب أم قلقة، تحاول أن تطمئنني حتى في أوج الفرح.
وسرعان ما أدرتَ موسيقى ناعمة تلاشت معها المخاوف، وغمرتني في لحظات سكينة واطمئنان.
#وحشتني_يا_رجائي
وما زال نوفمبر مستمرًا… وللحديث بقية.
1985/11/17
2024/11/17