تحل اليوم الذكرى الثالثة والخمسون لجلوس مثلث الرحمات قداسة البابا الأنبا شنودة الثالث على كرسي القديس مارمرقس الرسول، وهو اليوم الذي يعيد إلى الأذهان رحلة كفاح ورؤية حكيمة لشخصية عظيمة شكّلت وجه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على مدى عقود. لقد كان البابا شنودة الثالث قائدًا روحيًا وزعيمًا وطنيًا، عُرف بحبه الكبير لكنيسته ووطنه، وكان مخلصًا في رسالته لتعزيز روح الإيمان والمحبة والتسامح في مصر والعالم.
نشأة البابا ومراحل التعليم والتأهيل الروحي
ولد نظير جيد روفائيل، وهو الاسم العلماني للبابا شنودة الثالث، في قرية سلام بمحافظة أسيوط في 3 أغسطس 1923. منذ بداياته، اتسم بالذكاء والشغف بالعلم، فدرس التاريخ في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) وتخرج عام 1947 بتقدير ممتاز، واهتم بدراسة التاريخ الفرعوني والإسلامي والحديث، ليصبح موسوعة معرفية أسهمت في إثراء حياته الفكرية والروحية.
كان للبابا شأنٌ خاص في دراسته الأكاديمية، إذ التحق بالكلية الإكليريكية، وكان تلميذًا وأستاذًا في آن واحد، وواصل دراساته العليا في علم الآثار القديمة. عمل مدرسًا للغة العربية والإنجليزية، وأبدع في الكتابة وخاصة في مجال الشعر، كما ساهم بتحرير مجلة “مدارس الأحد”، التي كانت منصة فكرية ودينية تميزت بروح الإبداع والبحث.
طريق الرهبنة والحياة التأملية
قرر البابا شنودة الثالث تكريس حياته للرهبنة، ورُسِمَ راهبًا باسم “أنطونيوس السرياني” في 18 يوليو 1954، حيث اتخذ قرارًا حاسمًا بترك حياة العالم والتفرغ للتأمل والصلاة في صمت الأديرة. عاش حياة الوحدة في مغارة تبعد عن دير السريان حوالي 7 أميال، وهي فترة كان لها بالغ الأثر في تشكيل شخصيته الروحية، حيث تعمق في ممارسة التأمل والخلوة، وأمضى أكثر من عقد في الدير دون أن يغادره.
عندما شغل منصب سكرتير خاص للبابا كيرلس السادس في عام 1959، أثبت حنكته الإدارية والروحية، ثم عُين أسقفًا للمعاهد الدينية والتربية الكنسية، ليصبح أول أسقف للتعليم المسيحي في 30 سبتمبر 1962. وكانت رسالته ترسيخ التعليم الكنسي ونشر قيم المحبة والسلام.
تتويجه كبطريرك ومرحلة القيادة الروحية
بعد انتقال البابا كيرلس السادس، انتُخب البابا شنودة الثالث في 14 نوفمبر 1971 ليصبح البطريرك الـ117 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. لم يكن جلوسه على الكرسي البابوي مجرد تتويج، بل بداية لعصر جديد من التجديد والتطوير في الكنيسة. وفي فترة قيادته، زادت الإيبارشيات وازداد عدد الكنائس داخل مصر وخارجها، وتوسع انتشار الكنيسة القبطية في المهجر، حيث أصبحت رمزًا عالميًا للمسيحية المصرية، وقد عُرف بحرصه على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.
نهضة الكنيسة في عهد البابا شنودة
شهدت الكنيسة القبطية نهضة شاملة في عهد البابا شنودة، إذ سيّم أكثر من 100 أسقف وأسقف عام و400 كاهن، واهتم بتجديد روح الرهبنة، ما أدى إلى سيامة مئات الرهبان والراهبات، فضلًا عن تأسيس أديرة جديدة وإحياء أديرة مهجورة. حرص قداسته على تطوير التعليم الكنسي وتكريس أول أسقف للشباب، ليؤسس جيلًا جديدًا من المؤمنين المتعلمين والمثقفين. وكان للمرأة نصيب كبير من اهتمامه، حيث دعم خدمتها في الكنيسة وسعى لتمكينها.
مواقفه الوطنية والقومية
عُرف البابا شنودة بمواقفه الوطنية الراسخة، حيث لُقب بـ”بابا العرب” لمواقفه القومية الواضحة ودفاعه عن القضية الفلسطينية ورفضه للتطبيع مع إسرائيل. كما كانت له مواقف حازمة في تعزيز وحدة الصف الوطني، وقد قاد الكنيسة في أوقات عصيبة بحكمة وبصيرة، حيث كانت رسالته دائمة هي التآخي والتعايش.
آلامه وصبره على المرض
عانى البابا من آلامٍ صحية شديدة، حيث أصيب بأمراض عديدة في العمود الفقري والرئتين والكلى، وخضع لجلسات غسيل الكلى المتكررة. ومع ذلك، ظل صامدًا، يؤدي واجباته الروحية والسياسية حتى آخر لحظة من حياته. رحل عن عالمنا في 17 مارس 2012 عن عمر ناهز 89 عامًا، وسط جنازة مهيبة شهدها الشعب المصري، مسيحيون ومسلمون، ودُفن في دير الأنبا بيشوي.
إرثه الروحي والتاريخي
ترك البابا شنودة الثالث إرثًا غنيًا من الكتابات الدينية، والمحاضرات والقصائد، بالإضافة إلى مئات الكتب والخواطر الروحية التي أضاءت الطريق أمام ملايين المؤمنين. وكان شخصًا مميزًا بشخصيته المتواضعة المحبوبة، ونبعه المتدفق من الحكمة والإيمان.
خاتمة
نحتفل اليوم بذكرى جلوس البابا شنودة الثالث، القائد الروحي والوطني الذي سيظل أثره خالدًا في قلوب جميع المؤمنين. إنه رمز للتفاني والمحبة والوفاء، وسيظل تاريخ الكنيسة القبطية مزينًا بإنجازاته وإخلاصه، ليبقى دائمًا رمزًا للإيمان والسلام والوحدة.