كان ذلك قبل خطوبتنا بفترة قصيرة، عندما جاءني قرارك المفاجئ، الذي لم أكن أتوقعه منك، لكنه كان يعبر عنك وعن شخصيتك بكل وضوح: “لن أرتدي بدلة في الحفل، سأكتفي بقميص وبنطلون.” وبدلًا من أن أُظهر دهشتي أو اعتراضًا، وافقتك في لحظة واحدة، دون أن أفكر في التفاصيل. لأنك أنت من يهمني، وأنت من يجذبني مهما كان لباسك. وها نحن ننزل معًا، تحت شمس النهار الجميلة، نتجول في الأسواق بحثًا عن ما يناسبك. اخترت قميصك وبنطلونك البني، ورغم أن البني لم يكن يومًا من الألوان التي أُفضلها، إلا أنه بدا عليك وكأن له وقعًا خاصًا، وكأن هذا اللون، رغم هدوئه، يعبر عن شخصية مليئة بالقوة والهدوء في آن واحد. أما أنا، فكنت أرتدي ملابس مزركشة بالذهبي، المتناثرة بالأسود والرمادي، ما جعل البني يتناغم بشكل مذهل مع ألواني، وكأنما كان القدر ينسق لنا تلك اللحظة لتكون مليئة بالانسجام والجمال.
لكن، ما أن علمت والدتك بالأمر، حتى بدأ الهمس في الأجواء. غضبها مني كان أكبر من غضبها منك، لأنها شعرت أنني شجعتك على اتخاذ هذا القرار، بل إن ذلك جعلها تفكر أنني قد أكون السبب في تغييره للعادات والتقاليد التي كانت تأمل أن تراها يوم خطوبتك. وكنت أنت بالنسبة لها “الابن الكبير”، وعزيز قلبها، وكأن ما تراه منك يظل دائمًا علامة فارقة في حياتها. زعلت منك، لكن تلك الزعلة كانت أخف بكثير مما أحست به من ناحيتي.
جاء اليوم الموعود، يوم الخطوبة، وأنت دخلت إلى القاعة بثقة وعزة نفس، مرتديًا قميصك وبنطلونك البني، ولأول مرة في حياتي شعرت أن اللون الذي كنت أراه غير مناسب في أي مكان، أصبح ينطق بالجمال ويشع بالأناقة، فقط لأنك كنت فيه. في تلك اللحظة، كانت العيون تراقبك بذهول، بعض من أهلنا ومن المعازيم لم يستطع إخفاء تعابيرهم، خاصة والدتي وبعض إخوتي، والذين بدأوا يتبادلوا الهمسات بين بعضهم. رغم كل هذا، كنت أنت القمر المتألق وسط كل هذا الصخب، كانت ابتسامتك تُضيء القاعة أكثر من أي مصباح، وكانت السعادة تشع من عيوننا جميعًا، تنبض بالفرح والحب، وترتد لتُضيء وجوه من أحبونا وشاركوا فرحتنا.
لكن كانت تلك اللحظة درسًا بليغًا لنا، درسًا علمنا أنه لا بد من احترام التقاليد والخصوصيات، حتى في أشد لحظات الفرح. لم نكرر ما حدث في الخطوبة يوم الزفاف، وذلك إكرامًا لرغبة أمك، التي أعلنت بشكل حازم أنها لن تحضر الحفل إذا تكرر هذا الاختيار. كان قرارها نابعًا من حبها لك، ولكوني أصبحت أمًا أيضًا، فهمت تمامًا من أين يأتي ذلك الإصرار. لقد كانت دائمًا تُردد أنها تتمنى أن تراك عريسًا ببدلة، وفعلًا عندما أصبحنا “أم حاتم”، ورأيته في بدلة الزفاف، كان قلبي يرقص فرحًا، لكنني لم أفرض عليه شيءًا، بل تركنا الأمور تجري كما ينبغي.
رحم الله والدتك، كانت دائمًا تقول: “عاوزة أشوفك عريسًا ببدلة الفرح.” كنت تمازحها وتقول: “لقد حققت لك حلمك في زواجي، دعيني أحقق حلمي في زفاف بلا قيود.” وترد بابتسامة مشاغبة ومليئة بالمحبة: “قيود إيه؟ هو حد يقدر على المراغنة؟ اسألني أنا!” ثم تكمل بكلماتها الشهيرة: “إحنا المراغنة، مين أدنا؟ إحنا رواق البحر، والناس عكرنا!” وتندلع ضحكاتكما الحارة، التي تعكس تلك اللحظة من الحياة.
وبالرغم من كل ذلك، نزلنا عند رغبتها وبدأنا في البحث عن ملابس للعريس، رحنا نطوف شوارع وسط البلد في رحلة من التفصيلات الصغيرة، متأملين ماذا يمكن أن يناسبك أكثر. قررنا أن نختار الحل الوسط، فاشترينا جاكت وبنطلون وربطة عنق، وكأنها كانت عربونًا لرضا أمك، لتهدأ روحها، وتطمئن إلى أنك ستكون في كامل أناقتك، لكن بطريقة تخلو من القيود.
أما فستان العروس، فله حكاية طويلة وطريفة بحد ذاتها، مليئة بالتفاصيل والأحداث والمواقف التي مرت، لكنني سأتركها لحديث قادم، لأن تلك التفاصيل تحتاج إلى مكانة خاصة في ذاكراتي، ولها قصتها المميزة التي لم تُكتب بعد.
#وحشتنا_يا_رجائي
… وللحديث بقية.
13/11/2024