في عالم الصحافة الفنية ، لا يمكن تجاهل التأثير الكبير لجليل البنداري، الصحفي والمؤلف الساخر، الذي أضاف لونًا جديدًا إلى النقد الصحفي بأسلوب لا يعرف المجاملة. جمع بين موهبة أدبية عميقة وسخرية لاذعة، ما جعله أحد أبرز الأسماء في تاريخ الصحافة الفنية والثقافية في مصر. استطاع أن يرسم ملامح قوية للكثير من الشخصيات الفنية بلقبين لا تُنسى، لكنه أيضًا أوجد عداوات طريفة لم تخلُ من الحب والمصالحة، جعلته دائمًا محط أنظار الصحافة والجمهور.
صانع الألقاب والرموز الثقافية
كان لجليل البنداري قدرة استثنائية على منح الألقاب التي تخلد الفنانين وتُعبر عن شخصياتهم الفنية، حتى أصبحت جزءًا من ثقافتنا الشعبية. أطلق لقب “كوكب الشرق” على أم كلثوم، ذلك اللقب الذي ظل يتردد عبر الأجيال، كما أطلق “العندليب الأسمر” على عبد الحليم حافظ، ما جعل من ألقابه علامة مسجلة في الوجدان الفني المصري. لم يكن يكتفي بمنح الألقاب، بل كان يربطها بقصص وأحداث تضيف لها طابعًا من الروحانية والتاريخية، ليصنع من الصحافة منصةً لصياغة الذاكرة الثقافية.
السخرية اللاذعة والعداوات الطريفة
لم يكن قلم جليل البنداري لينحني أو يلين أمام أي فنان أو شخصية عامة، وكان سريع الانتقاد، دقيق الملاحظة، وساخرًا بشكل يصعب تجاوزه. من أشهر قصص الصدامات كان مواجهته مع الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا، التي اشتهرت هي الأخرى بقوة شخصيتها وردودها الحادة. بعد أن وجه لها نقدًا لاذعًا، ردت عليه بلقب “جليل الرباية”، فيما كان يردّ دائمًا بسخرية لا تخلو من ذكاء. تشير الروايات إلى أن أم كلثوم نفسها شاركت في هذا المزاح، ما يوضح حجم التأثير الذي أحدثه البنداري في الوسط الفني، وكيف أصبح مادة للجدل والنقد المشبع بالروح الفكاهية.
أما عبد الحليم حافظ، فقد شكلت علاقته بجليل البنداري مثالًا فريدًا على العلاقة المعقدة بين الفنان والصحفي. كان عبد الحليم يتجنب اللقاءات مع البنداري خوفًا من لسانه اللاذع. إحدى الحكايات التي تُحكى هي عن لقاء جمع بين عبد الحليم والبنداري بحضور الكاتب محمد حسنين هيكل، حيث ابتدأ البنداري اللقاء بملاحظة مستفزة ليضفي طابعًا من الجرأة على الحوار، ومع ذلك انتهى اللقاء بحضن وتصالح، ليكشف عن الطابع الإنساني خلف الحدة الظاهرة.
حوارات جريئة… ونقد بلا حدود
لم يكن البنداري فقط ناقدًا صحفيًا، بل كان مُحاورًا ذا قدرة فائقة على التحدي واستفزاز محاوريه بأسلوب فريد. في إحدى المرات، طلب الكاتب الكبير أنيس منصور من تحية كاريوكا إجراء حوار مع جليل البنداري، فاشترطت أن يُنشر الحوار بالكامل دون حذف. بدأت المواجهة بحوارات حادة وسخرية متبادلة؛ سألته كاريوكا عما كان يطمح لأن يكون إذا لم يصبح صحفيًا، فأجاب: “دكتور بيطري”، لترد عليه: “وهتعالج مين؟” فأجابها “القرد”، لترد عليه سريعًا بمزحة لاذعة حول داروين. انتهت المواجهة بتصالح بين الطرفين، لكن الحدث نفسه عكس طبيعة البنداري في دمج الجدية بالسخرية.
الإرث السينمائي للبنداري
تجاوز تأثير البنداري عالم الصحافة إلى السينما، حيث كتب وأنتج أعمالًا كانت سابقة لعصرها في طرحها للقضايا الاجتماعية الشائكة. من بين هذه الأعمال كان فيلم “الآنسة حنفي” الذي تناول قضية التحول الجنسي بطريقة ساخرة وجريئة في عام 1954. كان هذا الفيلم يعكس قدرة البنداري على معالجة مواضيع حساسة بأسلوب كوميدي عفوي، ما جعله نموذجًا للاستفادة من السخرية لتسليط الضوء على قضايا المجتمع. كذلك كان فيلم “العتبة الخضرا” الذي استند إلى قصة حقيقية وحوّلها إلى عمل سينمائي يحكي عن الغش والخداع، ما أظهر مرة أخرى مهارته في تحويل الأحداث الواقعية إلى قصص تثير الضحك، وتطرح أسئلة هامة حول القيم المجتمعية.
جليل البنداري مدرسة فريدة
يظل جليل البنداري رمزًا لأحد أهم أساليب النقد في الصحافة، حيث مزج بين الأدب وقلة الأدب بأسلوب بارع جعله يترك بصمةً استثنائية في تاريخ الصحافة الفنية والثقافية في مصر. استطاع أن يحقق توازنًا بين الحب والصدام، بين الجدية والهزل، ليكون مثالًا على الصحفي الذي لا يخشى المواجهة ولا يعرف حدودًا في طرح الأفكار. كان وما زال نموذجًا للصحافة التي تثير الحوار وتبعث على التفكير، وتخلق مساحة للتعبير الحر حتى وإن كانت ساخرة أو مثيرة للجدل.