في الوقت الذي يتناول فيه المثقف المصري المهاجر نبيل أندراوس أهمية تفكير الكنيسة في فتح مدارس قبطية في المهجر (أمريكا، كندا، وأوروبا) لربط أبناء الجاليات القبطية بوطنهم وهويتهم الدينية، نجد أن هذه الفكرة ليست حديثة بل هي امتداد لجهود طويلة بدأت من أعماق التاريخ القبطي، حيث لعبت الكنيسة دورًا رياديًا في تأسيس وتعزيز منظومة التعليم.
تأسيس المدارس القبطية: رؤية ريادية من البابا كيرلس الرابع
عند الحديث عن التعليم القبطي، لا بد من استحضار دور البابا كيرلس الرابع (1816 – 1861م)، الملقب بـ”أبو الإصلاح”، الذي قاد حركة تأسيس المدارس القبطية وارتقى بمستوى التعليم ليكون منارة للمجتمع القبطي والمصري ككل. عندما تسلم منصب البطريركية في عام 1854، كان على قناعة بأن التعليم هو الأساس لتقدم المجتمع والنهوض به. لذا، أنشأ المدرسة الكبرى للبنين في الأزبكية، وحرص على أن تكون متاحة لجميع الطلاب بغض النظر عن دينهم، مع جعل التعليم مجانيًا، ليكون بذلك سابقًا في رؤيته الإصلاحية لكثير من المفكرين في العصر الحديث.
وإدراكًا منه لأهمية نشر التعليم في المناطق النائية، أسس مدارس أخرى، منها مدرسة وكنيسة في حارة السقايين بعابدين. كان منهج التعليم شاملاً؛ حيث درس الطلاب اللغة العربية والقبطية، إضافة إلى اللغات الأجنبية كالإنجليزية والإيطالية، مع المواد العلمية مثل الحساب والهندسة. هذه الخطوة لم تكن مجرد نشر للتعليم بل تعزيز للهوية القبطية والثقافة الوطنية.
ريادة التعليم للبنات
كما كانت الكنيسة القبطية سباقة في إدماج المرأة في التعليم، حيث أنشأ البابا كيرلس الرابع أول مدرسة قبطية للبنات في مصر والشرق العربي، وهي خطوة تُعد استباقية على مستوى الفكر التنويري، متجاوزة عصرها حتى قبل ظهور دعوات تحرير المرأة مثل تلك التي نادى بها قاسم أمين. هذه المدرسة لم تقتصر على التعليم الديني بل سعت إلى تأهيل الفتيات ليكنّ قادرات على مواكبة متطلبات العصر.
استمرارية النهج مع البابا كيرلس الخامس
تابع البابا كيرلس الخامس (1824 – 1927م) مسيرة الإصلاح التعليمي، فأنشأ القسم الثانوي في مدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية وأسس مدارس جديدة، مثل المدرسة المرقسية بالإسكندرية، التي خرجت رموزاً من كافة فئات المجتمع، أقباطًا ومسلمين. وحرص على توفير التعليم الصناعي أيضًا بإنشاء مدرسة صناعية في بولاق، ما يعكس رؤيته لتنوع التعليم وربطه باحتياجات المجتمع.
دور الآباء البطاركة في تعزيز التعليم
لم تتوقف الكنيسة القبطية عند تأسيس المدارس بل حرصت على متابعة جودة التعليم واستمراريته. فقد قام البابا كيرلس السادس (1902 – 1971) بزيارات دورية للمدارس للاطمئنان على سير العملية التعليمية، وتفاعل بشكل مباشر مع الطلاب وهيئة التدريس. وأيضًا البابا شنوده الثالث (1923 – 2012) الذي عُرف بارتباطه العميق بالعلم والمعرفة، وأبدى اهتمامه الكبير بزيارة المدارس ومتابعة الطلاب، مع ترك بصمته الخاصة في التفاعل مع الطلاب بشكل يعكس شخصيته المتميزة.
أهمية التعليم القبطي في المهجر
تأملات نبيل أندراوس حول فتح مدارس قبطية في المهجر تأتي كامتداد طبيعي لهذا الدور الريادي. فوجود مدارس قبطية في الخارج يمثل استمرارية لرسالة الكنيسة في حماية الهوية القبطية وتعزيز روح الانتماء للأجيال الجديدة. في ظل العولمة والانفتاح الثقافي، قد تتعرض هويات الجاليات للاندثار، وهنا يأتي دور التعليم في إعادة إحياء الروابط مع الجذور الثقافية والدينية. من خلال تدريس اللغة القبطية، الثقافة، والتاريخ، يمكن أن تُحافظ هذه المدارس على التراث القبطي وتقدم في الوقت ذاته تعليمًا متكاملًا يواكب تحديات العصر.
الإرث المستمر للمدارس القبطية
ما وثقه الدكتور مينا بديع عبد الملك حول تاريخ التعليم القبطي يعكس حجم الالتزام الذي أولته الكنيسة لمسألة التعليم. فقد كانت المدارس القبطية ليست مجرد أماكن للتعلم، بل مراكز لبناء المجتمع وتخريج أجيال واعية تحمل روح الوطنية، على غرار ما قدمه البطاركة من تضحيات وجهود متواصلة. هؤلاء البطاركة لم يكونوا فقط زعماء دينيين بل قادة إصلاح وتعليم، مهدوا الطريق لأجيال قبطية ساهمت في نهوض المجتمع المصري بأكمله.
خلاصة: إرث أصيل ومستقبل واعد
اهتمام الكنيسة القبطية بالتعليم يعكس إدراكها العميق لأهمية العلم في بناء الأفراد والمجتمعات. مبادرات البطاركة الأوائل وما تلاه من جهود لتطوير التعليم القبطي تُعد شاهدة على عظمة الكنيسة وحرصها على أن تكون جزءًا فاعلاً من النسيج الوطني. والآن، مع تطلع المثقفين مثل نبيل أندراوس إلى إنشاء مدارس قبطية في المهجر، يصبح من الواضح أن الرسالة التعليمية للكنيسة مستمرة، تعبر الأزمنة والجغرافيا، لتعزز الهوية وتُبقي الأجيال راسخة الجذور في ثقافتها وموروثها.