يتزامن عيد ميلاد البابا تواضروس الثاني مع مناسبتين حميمتين في قلب كل قبطي: عيد الحب وقداس القرعة الهيكلية، وهما مناسبتان تجسدان مزيجًا فريدًا من الحب والإيمان. في الرابع من نوفمبر، يوم عيد الحب، شهدت الكنيسة القبطية لحظات لا تُنسى، حيث تجمع الآلاف ليشاركوا في قداس القرعة الهيكلية. كان هذا الحدث بمثابة يومٍ مشحونٍ بالأمل، يوم يحمل رؤيةً تربط الكنيسة بتاريخها وتقاليدها العريقة، لتقودها نحو مستقبل أكثر إشراقًا. وفي هذه الأجواء الممتلئة بالمحبة والإيمان، خرجت القرعة تحمل اسم “الأنبا تواضروس”، ليصبح رمزًا لثورة جديدة داخل الكنيسة. كانت هذه الثورة متجذرة في الحب العميق والتفاني، وقد بات يوم ميلاد البابا تواضروس محفورًا في وجدان الأقباط، رمزًا للأمل المتجدد والقيادة الروحية نحو مستقبلٍ زاخر بالأمان.
وأعود بتفكيري إلى ذلك اليوم التاريخي الذي كان مليئًا بالترقب والترهيب، حينما ذهبتُ كصحفي لأغطي تفاصيل ترتيبات قداس القرعة الهيكلية لاختيار البابا الجديد. لقد كانت الكنيسة قد أعلنت عن ترتيبات دقيقة لاستقبال هذا اليوم، يوم له طابع خاص مليء بالتقدير والاحترام، وسط أجواء من الترقب والرهبة والخشوع. وبصفتي جزءًا من الحشود، شهدت كيف امتلأت المقر البابوي بالصحفيين ، وكانت هناك حالة من الرفض الشديد من الاقباط لدعوة الرئيس المخلوع محمد مرسي للحضور، معتبرين أن حضور نظام قد أساء للأقباط ليس مرحبًا به في هذا القداس.
وفي وسط تلك الأجواء، توجهت بسؤال مباشر إلى الأنبا بولا، الذي كان يدير المؤتمر الصحفي للإجابة على استفسارات الصحفيين. سألت بوضوح، معبرًا عن تساؤلات الناس، هل اللجنة المنظمة ستوجه دعوة رسمية للرئيس محمد مرسي لحضور القداس الهيكلي؟ كانت إجابته دبلوماسية، تعكس حذر الكنيسة ورغبتها في تجنب الصدام، إذ أجاب قائلاً: “الأمر قيد الدراسة من اللجنة القائمة على التنظيم.” لم تكن إجابته كافية لتهدئة المخاوف، بل ازدادت الأجواء توترًا، خاصة مع إشاعات مرعبة بدأت تنتشر كالنار في الهشيم، أطلقتها بعض الجماعات التكفيرية، زاعمة أن الكاتدرائية ستكون مستهدفة في يوم قداس القرعة الهيكلية. لقد حاولت تلك الجماعات بث الرعب بين الناس، كان الخطر الوشيك يلقي بظلاله الثقيلة على الحشود التي جاءت لتشهد هذا الحدث التاريخي.
رغم كل التهديدات، قررت الحضور إلى الكاتدرائية في تمام السابعة صباحًا، كغيري من آلاف الأقباط والمسلمين، متحدين كل الشائعات والتهديدات. كان المشهد حافلاً بالمشاعر المتداخلة، حماس ممتزج بالقلق، وفي الوقت ذاته كان هناك عزم وتصميم. وكأنها كانت لحظة فارقة، حيث تجسدت قوة الإرادة والوحدة الوطنية في مواجهة التيار المتطرف. ومن المفارقات المؤثرة، أن هذا اليوم تزامن مع عيد الحب، وكأنما أراد القدر أن يجسد مشاعر المحبة والتضامن في مواجهة التحديات.
وفي ذروة الحدث، وقفت في الجزء المخصص للصحفيين، أتابع بشغف لحظات الإعلان عن القرعة الهيكلية، حين رأيت الطفل الذي كان عليه اختيار احدي الكرات الثلاث الموضوع بداخل كلا منها، اسم للمرشحين الثلاث الذين حصولنا علي اعلي اصوات انتخابية،
مدّ الطفل يده وهو مغمض العينين نحو الكرات الثلاث وأدارها بشكل عشوائي ، واختار إحداها. وعندما أعلن الأنبا باخوميوس، القائم مقام البابا حينها، بصوتٍ قويّ: “الأنبا تواضروس!”، لم أستطع تمالك نفسي من شدة الحماس وصرخت بصوت عالٍ: “الأنبا تواضروس ثورة، الأنبا تواضروس ثورة!” كانت هذه الكلمات تعبيرًا عن حلمي ورؤيتي لمستقبل الكنيسة، وحملت في طياتها وعدًا بأن هذا الرجل سيقود الكنيسة إلى آفاق جديدة.
تجمعت الكاميرات الأجنبية حولي، وسألتني إحدى الصحفيات الأجنبيات: “لماذا تعتقد أن الأنبا تواضروس سيحدث هذه الثورة؟” أجبتها بأن الأنبا تواضروس كان داعمًا للشباب منذ البداية، متفهمًا لطموحاتهم وساعيًا لتمكينهم سياسيًا في أحداث ثورة 25 يناير. وهتفت في الجماهير المحتشدة وخطبت فيهم لأشرح وجّهت نظري عن لحظة اختيار الأنبا تواضروس بمثابة ميلاد لمرحلة جديدة، مرحلة تغير فيها ملامح الكنيسة وتتحول إلى مؤسسة أكثر انفتاحًا وقيادةً.وبعد لحظات من هذه الانفعالات، التفتت إليّ وسائل الإعلام الكبرى، ومن بينها سي إن إن وروسيا اليوم، وقد ظهرت في تقاريرهم وأنا أعبر بحماسي عن هذه الثورة المرتقبة التي سيقودها الأنبا تواضروس.
وتواصل معي بعدها أحد المقربين من الراحل اللواء عمر سليمان، فقد كنت مدير حملة لترشيحي للرئاسة ولم تكتمل ، وسألني: “ثورة إيه اللي عاوز تعملها يا عشاي؟” فكان ردي : “ما يحدث في مصر لن يستمر كثيرًا، هذه البلاد تستحق التغيير للأفضل.” ورد عليّ بنبرة تأييد قائلاً: “عندك حق.”
في ذلك اليوم، قاد الدكتور صموئيل متياس فرق الكشافة بمهارة، حيث بذل مع فرق الشباب جهودًا مضنية ليلاً ونهارًا، لإعداد وتنظيم انتخابات المرشحين للكرسي الباباوي. وبعناية فائقة، أخرجوا أسماء ثلاثة مرشحين، ثم رتبوا لقداس القرعة الهيكلية، تلاه قداس التنصيب الذي ظهر بأسلوب لم تشهده الكنيسة من قبل، حيث امتزجت فيه الجمال والدقة. وعلى مدار هذه الفترة، عمل عشرات من قادة الكشافة ومئات الشباب بلا توقف ليظهر المشهد في أبهى صورة، تجسيدًا لأصالة الكنيسة وجلال المناسبة.
وبعد أن اختار الرئيس عبد الفتاح السيسي قيادة هذه الثورة، كانت زيارته الاولي للكاتدرائية خلال قداس عيد الميلاد بمثابة رسالة غير مسبوقة، حيث شهدتُ تلك اللحظة التاريخية ، وفي العام التالي كنت أتساءل إن كان سيحضر مثل العام الماضي. وأثناء انتظاري مع زملائي الصحفيين امام مقر البابا، لاحظت علامات التعب على وجه البابا تواضروس، وكانت هناك آثار واضحة لمعاناته مع مشكلات العمود الفقري. خاطبته بابتسامة قائلاً: “سيدنا البابا… سيدنا البابا! اضحك يا سيدنا، ضحكتك حلوة!” فردّ عليّ بابتسامة دافئة تشع بالأمل، لتلتقط الكاميرات تلك اللحظة، وتصبح رمزًا لتآخي مصر، بقيادة السيسي والبابا تواضروس.
اليوم، في عيد ميلاد البابا تواضروس الثاني الثاني والسبعين، أتذكر كل تلك اللحظات التي جعلتني أؤمن أن هذا الرجل، بسماته الهادئة وأفكاره المنفتحة، يقود الكنيسة نحو دورٍ عالمي ومكانة تليق بتاريخها العريق. أراه قائدًا لتجديد الكنيسة، يحاول أن يعيد أمجادها حين كانت قوة لا يستهان بها في العالم المسيحي، منارةً للإيمان، ومركزًا لوضع القوانين الروحية. لم تكن الكنيسة القبطية يومًا معزولة عن التاريخ، بل كانت رائدة، تحتضن تحديات وصعابًا جسيمة على مر الزمن، وما زالت حتى اليوم تحمل في طياتها مشعل الأمل، وتنير طريق الأجيال المقبلة.
في هذه المناسبة، أقول بصدق: “كل سنة وأنت طيب يا بابا المحبة، يا قائد التنوير، يا مثقف العصر.” كلمات أخرجها من أعماق قلبي، لأعبر عن فخرنا بقيادته، وعن الأمل الذي زرعه في قلوب الأقباط والمسلمين على حدٍ سواء. كل عام وأنت قائدٌ ملهم، نتمسك بك روحًا متقدة، ونتطلع معك إلى مستقبل أكثر إشراقًا ووحدةً. البابا تواضروس، في عيد ميلاده، يبقى الثورة الروحية التي تعيد الكنيسة إلى مجدها الذهبي، تضعها في طليعة الأمم، وترفع مشعل الوحدة والسلام.