اللواء خبرت شكري وكيل جهاز مباحث أمن الدولة
الفن رسالة تجمع ولا تفرق، لكنه أحياناً يصبح أداة للفرقة، كما رأينا في حادثة أثارت موجة من الانتقادات في مصر والوطن العربي، عندما أقدمت الفنانة لطيفة على تعديل أغنيتها “تعرف تتكلم مصري” لتصبح “تعرف تتكلم عربي.” هذا التغيير لم يكن مجرد تعديل في الكلمات، بل شكل انحرافاً عن روح الأغنية الأصلية ورسالتها الإنسانية، فقد غيّب مفهوماً مهماً عن المشهد: شمولية الهوية الوطنية التي تتسع للمسيحي كما المسلم، وللمواطن بكل أطيافه وتاريخه.
الأغنية الأصلية التي كتبها الشاعر جمال بخيت ولحّنها الموسيقار عمر خيرت، كانت تعبيراً نابضاً عن الهوية المصرية، تجمع بين المسلم والمسيحي في وطن واحد وثقافة واحدة. كانت قصيدة حب للوطن، تصف مشاعر الفخر والانتماء للمصريين جميعاً. لم تفرق بين مسيحي ومسلم، بل كانت دعوة لإبراز الهوية المصرية كهوية وطنية شاملة. لكن مع هذا التغيير الذي شهدته الأغنية، تم تبديل كلماتها وروحها أيضاً، فاختزلت المفهوم العربي في قالب ضيق لا يتسع لجميع أبنائه، مما استنفر مشاعر الغضب والحزن لدى قطاع واسع من المصريين.
كيف تحولت “تعرف تتكلم مصري” إلى خطاب إقصائي؟
عندما تحوّلت الأغنية إلى “تعرف تتكلم عربي”، افتقدت جانباً أساسياً من مفهوم الانتماء، وأصبحت أقرب إلى دعوة تركز على الهوية الإسلامية وحدها، وتغفل باقي مكونات الثقافة العربية، التي تضم المسيحيين والمسلمين في إطار حضاري جامع. فالنسخة الجديدة تعيد تقديم هوية “العربي” في سياق ديني واحد، متجاهلة المسيحي العربي وتاريخه ودوره الثقافي. الكلمات الجديدة تغفل حضور المسيح، وتكتفي برسول الإسلام وحده كرمز للهوية العربية، وكأن الهوية العربية محصورة فقط في إطار الإسلام، متناسية الإسهامات الكبيرة للمسيحيين العرب عبر التاريخ.
إقصاءً للمسيحيين عن مفهوم “العربي” الذي تطرحه الأغنية الجديدة. ولفت شكري النظر إلى الفرق الواضح بين النسخة الأصلية التي تميزت بالجمع بين مختلف مكونات الشعب المصري، والنسخة الجديدة التي أظهرت انحرافاً في الرسالة نحو هوية أحادية.
السقوط في فخ التحوير والانحياز
تغيير كلمات الأغنية لم يكن مجرد تعديل في النص، بل تغيير في الرؤية أيضاً. ففي النسخة الأصلية، “تعرف تتكلم مصري” كانت كلماتها تتنقل بين جوانب الهوية المصرية المختلفة، من الفلكلور والتاريخ إلى الأديان والعادات، مانحة للمستمعين شعوراً بالفخر بوطن يتسع للجميع. بينما جاءت “تعرف تتكلم عربي” لتختزل الثقافة العربية في الإسلام وحده، وكأن المسيحي العربي لا مكان له في هذا السياق. هذا التغيير أثار أسئلة عميقة عن هوية العربي الذي تخاطبه الأغنية: هل يُقصي المسيحي؟ وأين تمثيل القدس كمركز روحي مشترك، يحمل رمزية للجميع، وليس حكراً على طائفة دون أخرى؟
بعض المتابعين انتقدوا هذا الانحياز، وتساءلوا عن السبب وراء استبعاد المسيحيين العرب من الأغنية. هل هو تجاهل؟ أم فرض رؤى معينة على الثقافة العربية؟ إن الرؤية الثقافية العربية لا تنحصر في الدين، بل تمتد لتشمل الإرث المشترك من الأدب، والفن، والتاريخ، وبهذا تتسع للجميع، مسلمين ومسيحيين على حد سواء.
مسؤولية الفنان في التعبير عن الهوية الوطنية الشاملة
لطيفة والشاعر جمال بخيت يتحملان مسؤولية هذا السقوط في الرؤية الإقصائية. فالفنان والمبدع يلعبان دوراً مهماً في نقل مشاعر الانتماء والاعتزاز بوطن يتسع لجميع أبنائه. كان من المفترض أن تكون الأغنية رمزاً للتماسك الوطني العربي، لكنها بتعديلها الأخير صارت تبدو وكأنها خطوة عكسية، تختزل الهوية العربية في بعد واحد، متجاهلة التنوع الديني والثقافي الذي يمثل الركيزة الأساسية للمجتمعات العربية.
لطيفة بهذا الاختيار، تناست أن الفن رسالة توحيد، وأن الأغاني الوطنية كانت وستظل صدى لروح الشعب. الأغنية الأصلية حملت رسالة إنسانية شاملة، أما النسخة الجديدة فقد باتت أداة للتمييز، وكأنها تدعو العرب من المسلمين فقط إلى التحدث بلغتهم، وتغفل المسيحيين عن الخطاب.
عودة إلى الهوية الوطنية الأصيلة: “المصري” كرمز للتكامل
أغنية “تعرف تتكلم مصري” لم تكن مجرد أغنية عابرة، بل كانت تأكيداً على الهوية المصرية التي تتجاوز الاختلافات، لتجمع كل مصري، مسلماً أو مسيحياً، في بوتقة واحدة. هذه الأغنية كانت تمثل شرياناً موحداً لنبض الوطن، رسالة وطنية تهدف إلى تمكين المصريين من إدراك هويتهم الجامعة، وفهم عمق التعايش المشترك الذي ميز حضارتهم لآلاف السنين.
لقد حظيت النسخة الأصلية باحترام واسع، لأنها ببساطة استطاعت أن تعبر عن مشاعر كل مصري، وأن تحافظ على شمولية الكلمة ومعانيها. بينما “تعرف تتكلم عربي” جاءت لتختزل وتقصي، محملة برسالة قاصرة لا تستطيع أن تمثل كل أبناء الأمة.
إننا في حاجة لأغاني وطنية تعبر عن انتمائنا المشترك، وتبني جسوراً بين مختلف الطوائف والأديان، لا أن تكون سبباً للفرقة.