رجائي العزيز،
نكتب لك، ونحن نودّع شهر أكتوبر بذكريات انتصاراته المجيدة، ذلك الشهر الذي حمل شرفًا وانتصارًا لمعركة قد تكون أكثر اللحظات فخرًا في حياتك. هنا، أذكرك لا كزوجٍ وأبٍ وحبيبٍ فقط، بل كصوتٍ هادئ شامخ حمى كرامة الصحافة، كقلبٍ نبض لكل مَن عايشك ولمس فيك نقاءً لم تشُبه ذرة تردد أو رياء. رَحل جسدك، لكنّ روحك بقيت تحلق بيننا، تحكي لكل مَن أحبك وعرفك حكاية الشجاعة والوفاء.
في تلك الليلة الأولى بعد رحيلك، عندما همست المدينة بفراقك، لم يكن في قلبي إلا صمتٌ ثقيل، ودموعٌ لم تستطع التعبير عن ثقل الخسارة. تركتني وسط سيل من مشاعر لا أجد لها وصفًا. اختلطت دموع العزاء بدموع الفخر؛ فقد كنت، ولا زلت، فخر حياتي وأكبر قناعاتي. كل رسالة، كل مكالمة من شباب لم يعرفوك شخصيًا، ولكنهم تتلمذوا على يديك عن بعد، كانت تقول لي: “رجائي يعيش بيننا”.
كم أذكر تلك المعارك التي خضناها معًا من أجل حرية الصحافة، وحقوق الزملاء. كنت تقول لي دائمًا: “لن نخسر ما نؤمن به، حتى لو كانت المعركة صعبة”. كان إيمانك بأن العمل النقابي ليس مجرد قضية تنظيمية، بل قضية أخلاقية وإنسانية، إيمانًا راسخًا كجبل لا يهزه شيء. وكم كانت كلماتك تؤثر في زملائك وتحمّسهم للثبات على مواقفهم، تمامًا كما أثّرت فيَّ ودعمتني.
وأذكر أيام الجائحة، عندما حلّت كورونا لتغلق الأبواب وتحرمنا من وداع يليق بك. وكأن القدر أراد أن يتجنب الحزن التقليدي ليحوّله إلى احتفال بحياتك، لأن الطوفان الذي أتى من حب الناس لك كان بحجم الروح العظيمة التي تركتها. كيف اجتمعوا من كل مكان ومن كل فئة، كبارًا وصغارًا، ليحكوا قصصهم عنك، تلك القصص التي لم تروِها لي كلها، حتى اكتشفت كم من الخير زرعته بصمتك وأفعالك النبيلة.
ورجائي، أيها المقاتل الذي عاش حاملًا روحه فوق كفه، عائدًا من معركة إلى أخرى، كيف أنسى حديثك عن حرب أكتوبر وعن معركة المزرعة الصينية، تلك التي شهدت فيها العزم الحقيقي للمقاتلين، العزم الذي جعل من الجندي صحفيًا، ومن الصحفي محاربًا في كل ميدان. كنت تخبرني أنك قاتلت هناك لا من أجل مجد، بل من أجل حقنا جميعًا في أن نحيا بكرامة. لم تكن تشاء أن تتحدث عن بطولاتك، ربما لأنك كنت تراها واجبًا لا يستحق التباهي. لكنني كنت أرى في عينيك كل معاني الفخر والكبرياء، وهو فخر حُقَّ لك أن تتباهى به، لأنك قاتلت بصدق من أجل وطنك.
حين تولّيت مهامك في النقابة، لم تكن مسؤولياتك مجرد مهامٍ تؤديها وتعود منها إلى بيتنا؛ بل كانت رسالتك، قضية تبنيتها بكل قوتك وكرست لها حياتك. كان عملك النقابي أشبه بحياة موازية. كانت النقابة ملاذك اليومي، وكنت تعود منها لتروي لي مغامراتك فيها، تلك المغامرات التي كانت مليئة بتفاصيل التفاصيل، حيث كانت حتى أصغر القضايا تمثل لك معنى أكبر، فكنت تتابع وتدافع وتحرص على مصلحة الصحفيين جميعًا، دون النظر إلى أيّ فائدة شخصية.
أتذكر تلك الليالي التي كنتَ تقضيها وأنت منهمك في قراءة ملفات القيد، تعود إلى المنزل محملًا بها وكأنها كنز تحرسه بعناية واهتمام، تفرغ وقتك لدراسة كل ملف بعناية تفوق حتى عمل القاضي، وأنت تقول: “هؤلاء الشباب هم مستقبل المهنة، وعلينا أن نختار من يستحق.” لم يكن هدفك العدد أو الشكل، بل الجوهر، كأنك تقول: “هذه النقابة ليست مجرد مكان، بل وطنٌ صغيرٌ يحتضن الصحفيين”.
رجائي، عندما كنت تعتني بجدارية فتحي محمود وكأنها طفل من أطفالنا، لم يكن ذلك أمرًا عابرًا؛ كنت ترى فيها رمزًا للقيم التي تسعى لحمايتها. كم من الليالي قضينا ونحن نحرسها، ننتظر قدوم وزارة الثقافة لترفعها بعناية، بينما تقاوم أنت المقاول العجول وتتابع كل حركة لحمايتها، كأنك كنت تحمي ذكرى وحلمًا لجيلٍ كامل.
رجائي، كلماتك لا تزال تتردد في أذني، كأنك تناديني من مكان بعيد وتقول: “كوني قوية”. كنتَ دائمًا تزرع فيّ هذا الإيمان، وها أنا أقف هنا، أكتب لك وللعالم، وأقول لهم جميعًا: رجائي لم يرحل، فهو باقٍ في قلوبنا، حيٌ في ضميرنا، يعلّمنا أن نواصل الطريق حتى النهاية.
رحلت، لكنك تركت لي ذكريات تُشبه غاباتٍ من الأمان والمبادئ النبيلة. كلما مررتُ بشوارع المدينة أو جلستُ في النقابة التي شهدت حكاياتك، شعرت بكَ هنا، بجانبي، تهمس لي بتلك الكلمات التي كانت دومًا ملاذي وسلاحي. وداعًا، يا شريك العمر والنضال، وحتى نلتقي مرة أخرى، سأحمل أمانة ذكراك، وأحكي للجميع عن بطل حقيقي.