صديقنا العزيز الدكتور محمد فراج، الذي كان دوماً رفيقاً وداعماً لي، منحني منذ زمن لقب “السيدة الحديدية”. قد تبدو هذه التسمية للوهلة الأولى دعابة عابرة، لكنها بالنسبة لي أصبحت ذكرى محفورة ومثيرة للتساؤل حول ماهيتها وأبعادها. لا أذكر تحديداً متى ولماذا خصني فراج بهذا اللقب، ربما لأنه رأى فيّ شيئًا من الصلابة والإصرار عندما كنت أشارك بكل ما لديّ من جهد ونشاط في مواسم الانتخابات النقابية دعمًا لك. أو ربما لأنني كنت أحرص على التواجد بجانبك في كل الفعاليات التي كنت تحضرها، وتلك التي كنتَ قائدًا بارزًا فيها، سواء كانت في القضايا النقابية، الصحفية، أو السياسية. كان يبدو على فراج أنه يراني من خلال هذه اللحظات بشكلٍ مختلف، وكأنني عنصر لا يتجزأ من هذا الكيان النضالي.
كنت دومًا أعتبرها دعابة لطيفة من د. فراج، إذ كنت أرى في عينيه طيفًا من الاحترام والتقدير، ومن محبته لنا وعلاقته الوثيقة بك. لم يكن يتوقف عن منادتي بهذا اللقب كلما التقينا في رحاب النقابة أو تحدثنا هاتفيًا، وكأنه أراد أن يجعلني أرى نفسي كما يراها هو، بعين التقدير والقوة. ومع أنني كنت أتساءل أحيانًا عن سرّ تخصيصه لي بهذا اللقب دونًا عن زميلاتنا وصديقاتنا الصحفيات، فقد كنت أجد منه الردّ اللطيف دائمًا، وعندما أعرب عن دهشتي من التسمية، كان يضحك بإخلاص ويصرّ على التسمية. وفي كل مرة أعود إليك لأسألك عن معنى هذا اللقب، كنت تبتسم مطمئنًا وترد بثقة:
“إنه يراك بعين الاحترام والتقدير للمرأة، فهو يراك رمزاً للصلابة والصمود.”
كنت أصدقك، وأشعر بالسرور من إجابتك، وأحببت هذا الشعور بأن د. فراج يحمل في قلبه هذا التقدير لي، لكن داخلي كان يتردد، إذ كان لدي هامش من الخوف من هذا اللقب. كنت أرى فيه نوعًا من المسؤولية التي تتطلب مني الصمود المستمر، وحين أفكر في معناه، كنت أجد ارتباطاً لا يمكن تجاهله بالقوة، بل القوة القاسية أحيانًا، والشدة التي قد تكون بلا قلب، تذكرني بالساسة وشخصياتهم الصلبة. لقد جاء اللقب محمّلاً بأثقال دلالاته، وأبرز من حملته في العالم السياسي كانت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، “المرأة الحديدية”، التي شغلت هذا اللقب لما يزيد عن عشر سنوات (1979 – 1990) بأبرز تحدياتها وإنجازاتها. كانت تاتشر قوية وقاسية، واجهت الصعاب بدون تردد، وكانت سياساتها تُعرف بالتاتشرية بسبب تأثيرها الكبير، وأصبحت شخصية أسطورية في تاريخ بلدها.
لكن طبعًا، هناك فارق كبير بيني وبين السيدة تاتشر. هي سيدة حديدية بحق، أما أنا، فلم يكن لقبي “السيدة الحديدية” سوى منحة لطيفة من د. فراج، تقديرًا مني له ومحبة، لكنها محبة ليست صلبة كحجارة التاتشرية، بل ودودة، لينة، تشعر بثقل الفراق وتئن تحت وطأته.
في السنوات الأخيرة، وبعد رحيلك يا رجائي، كان د. فراج يتصل بي مرارًا ليطمئن عليّ، محاولاً بكل ما يملك من صدق أن يمنحني القوة ويدعمني، وكان يكرر لي إصراره على أنني “السيدة الحديدية” التي يجب أن تتماسك وتقف شامخة في وجه الأحزان، مؤكدًا لي أن رحيلك ليس النهاية، وأن الحياة تستمر رغم ما نحمله في داخلنا من ألم. لكنه، وكأنه لا يدرك، أو ربما يدرك لكن لا يريد أن يعترف، أنني لم أعد “السيدة الحديدية” التي كنتها. كنت أقول له مرارًا بصوت حزين مبحوح:
“كنت قوية بوجود رجائي، أما بغيابه، فقد هانت الدنيا وضعفت قواي، فلم أعد أملك ما يمكنني من الصمود في وجه الحياة.”
لم يكن د. فراج وحده الذي حاول إقناعي بأنني قوية. الكثيرون حاولوا، وما زالوا يحاولون، أن يرفعوا من معنوياتي، ويعيدوا إليّ شيئًا من الأمل بأنني أستطيع تجاوز الأحزان والآلام، وأن الحياة قادرة على احتضاننا رغم الجروح التي نحملها. كانوا يؤكدون لي أن هذه هي سنة الحياة، وأن الفراق سنة، وأننا سنلتقي يومًا ما في يوم محتوم، ولكنه مؤجل لحين.
لكنني، وللجميع، أعترف الآن، دون تردد، أنني لم أعد تلك “السيدة الحديدية” التي كان د. فراج يراها فيّ، أو التي حاول الجميع إقناعي بأنني كذلك. الحزن على فراقك قد أنهكني، وتمكّن من روحي وجسدي، ولم يترك لي سوى بقايا إنسانة تائهة، تعيش بلا روح ولا بوصلة، بقايا تترنح بحثًا عن سكينة تبدو بعيدة المنال.
اليوم، تذكرتك يا د. فراج، وأنا جالسة في أحد أروقة المستشفى، أتلقى جرعات الحديد ضمن خطة العلاج من الأنيميا، التي استنزفت من جسدي كل مخزوناته من الحديد. وبينما كانت الممرضة تستعد لحقن المحلول الأسود الداكن في أوردتي الضعيفة، لمحت نظرة طمأنة في عينيها، فابتسمت وقررت أن أشاركها سرّ لقب “السيدة الحديدية”؛ قلت لها ممازحة:
“لا تخافي، أنا السيدة الحديدية، إسألي الدكتور فراج، أو حتى رجائي.”
ابتسمت الممرضة وقالت بلطف:
“برافو، الحديد للسيدة الحديدية!”
غصت بعدها في أفكاري، وقد شعرت أنني أتحدث معك ومع د. فراج، وكأنني أخاطبكما من عمق روحي، وبدأت أسأل نفسي:
“هل ما زلت حقًا السيدة الحديدية يا د. فراج، أم أنها مجرد ذكرى عابرة؟”
أشكّ، يا صديقي، وأكاد أجزم أن مخزوني من القوة لم يعد كما كان، لقد رحل مع رحيلك يا رجائي، وكل ما أستطيع فعله الآن هو محاولة البقاء بطرق بديلة، بطرق تجعلكم تشعرون بأنني ما زلت قادرة على التحمل، وأنني ما زلت أتحدى الصعاب، رغم أنني أفتقدك بشدة.
وحشتني_يا_رجائي