صموئيل العشاي يحلل
بداية المشكلة: الصندوق الدولي كأداة للهيمنة الاقتصادية
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما سمتهما الأرجنتين “صندوق الشيطان”، لم يكونا أبداً مجرد مؤسسات مالية دولية هدفها تحقيق التنمية الاقتصادية للدول النامية. بل يشكلان أداة قوية بيد النظام الرأسمالي العالمي للسيطرة على الدول والتلاعب باقتصاداتها، حيث يتغلغلان في شؤونها الداخلية ويشكلان حاجزاً في وجه أي تطور مستقل. تحكم هاتان المؤسستان في السياسات الاقتصادية لمستقبل الدول لم يكن يوماً مرتبطاً بالرفاهية أو النمو، وإنما يتوقف دوره عند إبقائها في أدنى مستويات المعيشة، حيث يتمثل الخطر الأكبر في قدرتهما على تعطيل اقتصاداتها بضغطة زر.
مصر وأسئلة التحدي: لماذا نواصل التعامل مع الصندوق الدولي؟
هنا يتساءل البعض: إذا كانت مصر والشعب المصري على دراية كاملة بهذا الواقع، لماذا نستمر في الدخول في اتفاقيات متتالية مع الصندوق والبنك الدوليين؟ لماذا نضع اقتصادنا ومستقبلنا بيد من يسعى لإبقائنا في حدود الحد الأدنى؟ الإجابة قد تكون في الظروف التي فرضت على مصر منذ سنوات، والمناورات الدولية التي تسببت في إرغام الدول على البقاء تحت مظلة تلك المؤسسات.
تأثير الصندوق الدولي على التصنيف الائتماني العالمي
من ناحية أخرى، يُتحكم في مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية سياسياً لخلق بيئة اقتصادية غير مستقرة للدول التي لا ترضخ بشكل كامل، فخفض التصنيف يعني هروب رؤوس الأموال، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وانهيار الاقتصاد، مما يدفع الدول لمزيد من التبعية الاقتصادية. وبناء على هذا الواقع، جاء تحرك قمة “بريكس” لإنشاء بنوك ومؤسسات تقييم حيادية تستطيع مواجهة نفوذ هذه المؤسسات والتأثير في اقتصاديات الدول.
جهود “بريكس”: بداية التحرر من قبضة الصندوق الدولي
تأتي أهمية بنك “بريكس” بوصفه البديل الذي يسعى لكسر هيمنة الصندوق والبنك الدوليين. فهذا التجمع الاقتصادي العملاق يشمل قرابة 45% من سكان العالم، ويملك إمكانات اقتصادية هائلة. ورغم أن هذا المسار ما زال في بداياته، فإنه يهدف بوضوح إلى خلق نظام مالي دولي بديل يعتمد على تنمية اقتصادية مستقلة وحيادية في تقييمات التصنيف الائتماني. ويجعل هذا التوجه القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل في مواجهة مفتوحة مع النظام الرأسمالي العالمي، ليخلق ميزان قوى مختلفاً قد يكون بداية لنظام اقتصادي عالمي جديد في السنوات القادمة.
مصر والتحديات الاقتصادية منذ 2014: ملامح معركة لا تنتهي
مرحلة الإفلاس والانهيار (2014 – 2015):
كانت الدولة المصرية تواجه انهياراً اقتصادياً وأزمات أمنية نتيجة أحداث يناير 2011، حيث كانت الأوضاع تزداد سوءاً، والحرب ضد الإرهاب تشتعل في سيناء وعلى الحدود الغربية مع ليبيا. فكان لا بد من اتخاذ خطوات جذرية لتحقيق استقرار نسبي في مواجهة تهديدات دائمة.
التصدي للإرهاب وتثبيت الاستقرار (2015):
نجحت الدولة في السيطرة على حدودها الغربية، ومحاصرة الإرهاب بشكل كبير في سيناء، مما كان إنجازاً مهماً في استعادة الأمن. ومع ذلك، كانت التحديات الاقتصادية هائلة، حيث تواصلت حالة التدهور بشكل كبير.
مشروع العاصمة الإدارية الجديدة (2016):
بدأت مصر تنفيذ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة كمبادرة اقتصادية غير مسبوقة، بتفعيل إمكانيات القوات المسلحة. ونجح المشروع في تحويل مناطق صحراوية غير ذات قيمة إلى أراضٍ استثمارية بمليارات الدولارات، مما شكل بداية لنمو اقتصادي جديد يسهم في توفير التمويل اللازم لتنمية الدولة.
تحرير سعر الصرف ومعدلات النمو (2016-2019):
خلال هذه الفترة، تم تحرير سعر الصرف، مما أدى إلى تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة واستمرار التنمية بأقصى سرعة لمدة أربع سنوات، مما أتاح لمصر فرصة بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات المالية.
سنوات التحدي (2020 – 2024): من الأزمات الصحية إلى الحرب الروسية
التداعيات الاقتصادية لكورونا (2020 – 2021):
لم تستطع مؤسسة الصندوق الدولي عرقلة مصر خلال هذه الفترة بفضل القوة التي أظهرها الاقتصاد المصري. ورغم ضغوط أزمة كورونا العالمية، استمرت الدولة في الصمود.
التأثير العالمي لحرب أوكرانيا (2022):
مع بدء الحرب، عاد النظام الرأسمالي العالمي لاستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية في محاولة لاستعادة السيطرة المطلقة للدولار، مما أدى إلى حرب اقتصادية شملت العالم بأسره. مصر، التي اتخذت موقفاً سياسياً حيادياً ورفضت الانضمام إلى تحالفات صهيونية، بدأت تتعرض لهجمات اقتصادية عبر خفض التصنيف الائتماني للضغط على الاقتصاد المحلي.
حرب السودان وغزة (2023):
في هذا العام، تدهور الوضع بشكل أكبر مع اندلاع الصراع في السودان، حيث تعرضت مصر لضغوط عسكرية واقتصادية وسياسية شديدة. وتزامن ذلك مع تصاعد الأزمات عند حدودها الشرقية نتيجة النزاع في غزة، واشتدت الضغوط الخارجية التي تستهدف الاقتصاد المصري لتشديد الخناق على الحكومة، مما أدخل البلاد في دوامة من الأزمات.
إصلاحات عاجلة: الرقابة على السوق والإدارة الحكيمة للتحديات
في ظل التحديات الاقتصادية الضخمة، بات من الضروري تنفيذ إصلاحات عاجلة تهدف إلى:
1. الرقابة على الأسواق: حيث يجب ضبط أسعار السلع الأساسية ومواجهة الاحتكار بما يضمن تخفيف العبء عن المواطنين، لا سيما في ظل ظروف معيشية صعبة.
2. وضع حلول عملية للاستيراد والتصدير: لتحديد الأولويات ووقف نزيف العملة، مع توفير الحماية من المضاربة العشوائية التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
3. تحسين السياسات التصديرية: لتشجيع الصناعة المحلية وضمان توفير السلع الأساسية بالأسواق المحلية بأسعار مناسبة.
4. تشديد الرقابة على الفساد: فمحاربة الفساد على جميع المستويات من شأنه توفير موارد إضافية تستطيع الحكومة توجيهها نحو برامج التنمية.
ضرورة إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين
بات من الواضح أن هناك فجوة كبيرة في الثقة بين الحكومة والمواطنين، بسبب سقطات التصريحات الرسمية التي فشلت في تبرير الواقع الاقتصادي المعقد. الحكومة المصرية بحاجة ماسة إلى بناء الثقة مع شعبها من خلال الوضوح والشفافية، وتبني سياسات مرنة تضع مصلحة المواطن في المقدمة.
الأمل في تجاوز الأزمات: الدور الحيوي للحكومة
بالرغم من التحديات الكبيرة، نجحت الحكومة في العديد من الملفات الأساسية، كالحفاظ على الأمن القومي، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، وزيادة الرقعة الزراعية، وجذب الاستثمارات الأجنبية التي وفرت فرص العمل وساهمت في تحسين مستوى معيشة بعض المواطنين. هذه النجاحات تعكس القدرة الكبيرة على مواجهة الأزمات والتحديات، ولكن يبقى النجاح في ضبط الأسعار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الشامل ركيزة أساسية لتجاوز هذه المرحلة.
ختاماً: الثقة في القيادة والأمل بالمستقبل
لا شك أن مصر تواجه تحديات لم يسبق لها مثيل، وتتطلب تكاتف الجميع وصبرهم. وتظل الثقة في القيادة السياسية ثابتة، كما أن لدى المصريين إرادة راسخة لمواجهة أي أزمة، بحيث يصبح تجاوز الأزمات جزءاً من تاريخ صمود الشعب المصري.