تبدأ القصة من إحدى أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في العالم، وهي قاعدة دييجو غارسيا، التي تعود أصولها إلى منتصف القرن العشرين. في عام 1965، أبرمت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقًا سريًا مع بريطانيا، حيث كان الرئيس الأمريكي آنذاك، ليندون جونسون، يطمح إلى إنشاء قاعدة عسكرية في أرخبيل تشاجوس، والذي يقع في المحيط الهندي. كانت هذه القاعدة تُعتبر مفتاحًا استراتيجيًا للتدخل الأمريكي السريع في إفريقيا والشرق الأوسط وغرب آسيا.
يتبع أرخبيل تشاجوس إداريًا لدولة موريشيوس، التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني آنذاك. في سياق سعيها نحو الاستقلال، فرضت بريطانيا على موريشيوس التخلي عن تشاجوس مقابل 3 ملايين جنيه استرليني. وبدلاً من ذلك، قامت بتمديد عقد إيجار الأراضي لأمريكا لمدة 50 عامًا، مع إمكانية التمديد لعشرين سنة إضافية، مقابل تزويد بريطانيا بغواصات بولاريس الأمريكية بخصم كبير.
لكن كان هنالك عقبة كبيرة: سكان تشاجوس. كان يُقدر عددهم بالآلاف، وكان من المتوقع أن يعترضوا على تدنيس أرضهم بالوجود العسكري الأمريكي. ما حدث بعد ذلك كان مأساويًا ومروعًا، حيث بدأت واحدة من أكبر عمليات التهجير والقتل برعاية أمريكية وبريطانية. يروي الصحافي الاستقصائي الأسترالي جون بيلجر، في كتابه “الحرية في المرة القادمة”، تفاصيل تلك الأحداث المأساوية.
في عام 1968، أطلق الأدميرال الأمريكي جريثام والسير البريطاني جريتباتش أمرًا سريًا لتطهير أرخبيل تشاجوس. طالبوا السكان بالرحيل بهدوء على متن سفن بريطانية، لكن السكان رفضوا هذا الطلب. وعندما عارضوا، بدأت قوات الاحتلال في ترويعهم. قامت القوات البريطانية بجمع كل كلاب الجزيرة، وهي مصدر الأمان للسكان، وأشعلوا فيها النيران وهي حية أمام أعين أصحابها. ومن اعترض من السكان كان مصيره الموت أيضًا.
دب الذعر في نفوس الجميع، واستيقظوا في صباحات متتالية ليجدوا الجنود البريطانيين يخرجونهم من منازلهم ويحرقونها بالكامل. كانوا يُمنعون من الطعام والشراب، وشهدت الجزيرة حملة تجويع فظيعة، حيث مات نحو 400 شخص من الجوع. وفي النهاية، بعد أن خارت قواهم، اضطروا للاستجابة لشروط البريطانيين.
صعد سكان تشاجوس على متن السفن البريطانية، ومن كان منهم مريضًا أُلقي به في قاع المحيط الهندي. وبعد أن وصل بعضهم إلى موريشيوس، مُنعوا من الحصول على الجنسية، وبقوا بلا مأوى، متشردين في الشوارع. وحتى الفتيات من تشاجوس لم يجدن حلاً سوى الانتحار حفاظًا على أنفسهن. هكذا تم سحق شعب كامل، وتشريدهم، وقتلهم، حتى تحظى الولايات المتحدة بفرصة إقامة قاعدتها العسكرية العملاقة.
تدور هذه المأساة في صمت شديد خلال نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. وعندما بدأت تكشف للرأي العام، عُقدت لجنة سرية من وزارتي الدفاع الأمريكية والبريطانية للتعامل مع أزمة العلاقات العامة التي نشأت بسبب تهجير وقتل سكان تشاجوس. كان الحل تقديم “مساعدات إنسانية” لبقية التشاجوسيين الذين ألقتهم السفن البريطانية في موريشيوس، بينما أُطلقوا في الوقت نفسه في حملة غسيل سمعة تصوّر النواب البريطانيين وهم يتصورون مع أطفال تشاجوس.
لقد أصبح من الواضح أن الغرب، الذي يسرق الأرض ويهجر سكانها، يقدم المساعدات فقط لتبرير أفعاله. وقد تجسدت هذه الممارسات في سياقات متعددة، مثل ما يحدث الآن في فلسطين. إذ تتكرر نفس الخدعة الغربية: القتل الواسع النطاق، ثم الإحسان الشحيح لمن ينجو من المقصلة.
بينما يدعو قادة مثل بايدن وشولتس إلى تجنب القتل الواسع النطاق، فإنهم يواصلون دعم الفظائع التي ترتكب في الأراضي المحتلة. هذه الاستراتيجية ليست جديدة؛ فهي تتكرر مع كل مأسٍ تاريخية.
تشاجوس هي مجرد مثال على ما يتعرض له سكان فلسطين اليوم. نفس الطمع، نفس الجوع، والإبادة عينها. فالاستئصال الذي تم على يد القوى الاستعمارية لا يختلف عن الاستئصال الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني.
إن ما يحدث في تشاجوس وفلسطين هو تعبير عن حضارة الإفناء والمحو، حيث يُشيطن كل من يقاوم هذا النموذج الاستعماري، فيسعى الغرب لمحوه. وعندما ينجح في تحقيق أهدافه، يُخرج علينا ليعتذر عمن تبقى من الشهود على المجزرة.
إن هذا التحليل التاريخي للأحداث يظهر لنا كيفية تكرار الأزمات الإنسانية، ويؤكد أن معركة الشعوب ليست مع المحتلين فقط، بل مع الأنظمة التي تدعمهم. في النهاية، تبقى لعنة الظالمين على مر العصور.