بقلم – خيرية شعلان:
وسط زحام المتاعب الصحية، تلقيت رسالة قصيرة لم أتوقع وصولها يوماً، رسائل من قلوب قديمة تحمل أصداء من زمن بعيد. كانت الرسالة بسيطة: “صباح الخير يا خالة، طمنيني عليكِ وعلى إخوتي سوسنة وحاتم”. كلمات قليلة، لكن معانيها عميقة، استدعت ذكرى وحنيناً لطفل صغير كبرت أمام عينيه، وهو الآن شاب له عائلة.
قادني عقلي في رحلة لزمن طفولة “عمر”، ابن جارنا اليمني الطيب صادق، حين كنت أراه رضيعاً بين يدي أمه، التي كانت تأتي مع زوجها، جارنا الصديق، لزيارة زوجي رجائي في صنعاء. أم عمر كانت شابة صغيرة، وكنت أقدم لها النصح والدعم كأخت كبرى، خاصة وأنها جديدة على الزواج والأمومة. على مر السنوات، كبر عمر وتزوج وأنجب، لكن أواصر المحبة بيننا وبين أسرته لم تتغير، حتى بعدما انتقلوا للعيش في إحدى الدول العربية.
بيت الذكريات في صنعاء: شاهد على سعادة الأيام
ضمن رسالته، أرسل لي عمر صوراً التقطها من نافذة منزلهم في صنعاء، يظهر فيها بيتنا القديم الذي عشنا فيه أربع سنوات، وكان ثابتاً في موقعه رغم تغير الأزمنة والأشخاص. حين رأيت الصور، شعرت وكأنني عدت في الزمن إلى داخله، أتجول بين حجراته، أرتب الأثاث، أتابع شؤون المطبخ، وأضع اللمسات الأخيرة على تفاصيل المنزل. رأيت حاتم طفلاً صغيراً يركض في البيت بمشايته، وأنا في انتظار عودة سوسنة من المدرسة، وإكمال يوم رجائي بعد عمله الصباحي. كنا نجتمع على مائدة الغداء، وتدور عجلة رعاية الصغار إلى وقت النوم، ليكمل رجائي عمله الصحفي في مكتبه مساءً. كانت حياتنا بسيطة، مفعمة بالحب والدفء، تجمعنا الأمسيات الهادئة، نسمع فيها الموسيقى ونتبادل الحديث.
كان البيت فيلا بسيطة مقسمة إلى قسمين، أحدهما للمعيشة، والآخر مخصص لمكتب رجائي الصحفي، وكان يحاط بحديقة صغيرة ببوابة حديدية تغطي أرضها حجر البازلت البركاني الأسود. ورغم قساوته، كانت تنبت بين شقوقه زهور برية جميلة. تزينت الحديقة بأشجار الخوخ والتفاح والعنب، وكانت تربتها البركانية الخصبة تغريني بتجربة زراعة الحبوب والخضروات.
مغامرات الزراعة وبداية هواية في أرض اليمن الخصبة
شدني السخاء الغريب للأرض ونضارة ما تنبت، وبدأت أجلب بذوراً مختلفة لأزرعها في الحديقة. كانت هناك الطماطم تنمو بجانب الذرة، والجرجير بجانب الفول، وعيدان عباد الشمس الرائعة التي ترفع رؤوسها كل صباح، شامخة تستقبل النهار، ثم تنحني بتواضع في المساء. كانت عملية الزراعة بسيطة وعشوائية أحياناً، لكنها أثمرت حديقة صغيرة مفعمة بالخضرة، أقطف منها ما يبهج قلوبنا وأهدي للجيران من خيراتها.
كانت أوقات العصاري في الصيف وأوقات الظهيرة في الشتاء مليئة بذكريات لا تنسى، حيث كنا نشوي الذرة على الفحم عند مدخل الحديقة. يتحلق حولي أطفالي وأطفال الجيران، نتشارك أطباق الذرة المشوية، وحبوب الملانة، مع عناقيد العنب، والفستق، واللوز، وعين الجمل اليمني الشهير الذي كان رجائي يحرص على شرائه لنا.
هناك، اكتشفت أن المصريين وحدهم يفضلون الذرة مشوية، في حين أن الجيران من السودانيين وغيرهم كانوا يفضلونها مسلوقة، يحملون كيزان الذرة من حديقتنا ويطهونها على طريقتهم. اليوم، الذرة المسلوقة صارت جزءاً من المائدة المصرية، لكن الطعم المرتبط بذكريات الماضي يظل مختلفاً.
رسالة عمر: بوابة إلى زمن اليمن السعيد
رسالة عمر فتحت لي باب الذكريات، وأعادتني إلى أيام جميلة عشناها في اليمن السعيد. كانت حياتنا مليئة بالبساطة والسعادة وسط جيران من مختلف الجنسيات، يمنيين، فلسطينيين، سودانيين، مغاربة، وغيرهم من العرب، وحتى بعض الأجانب، وفي القلب منهم المصريون الذين كانوا يملأون حياتنا دفئاً بنكهة الوطن العزيز.
لقد أعادت لي رسالة عمر لحظات من الفرح والسلام الداخلي، وذكرتني بحكايات لم تروَ بعد، عن أيام عشناها وسط أناس طيبين وتفاصيل مليئة بالسعادة. كم أتمنى أن يعود اليمن سعيداً، ليرفل أهله في السلام، ويعيشوا أياماً مثل التي عشناها، أياماً تبقى في الذاكرة كعطر الزهور البرية التي كانت تنبت وسط حجر البازلت الصامد.
**#وحشتني_يا_رجائي