في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، تعود مسألة استبدال الدولار الأمريكي كعملة الاحتياط العالمية إلى الواجهة مرة أخرى، لا سيما مع تزايد اهتمام العديد من القوى الكبرى مثل روسيا والصين بهذا الموضوع. في هذا السياق، يتساءل كثيرون: هل يفعلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويطرح عملة موحدة لدول “البريكس” (BRICS)؟ تجمع البريكس، الذي يضم كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، أصبح لاعباً مهماً على الساحة العالمية، ويطرح نفسه بديلاً محتملاً للنظام المالي العالمي الحالي الذي تسيطر عليه الدول الغربية والدولار الأمريكي.
تجمع البريكس: بين الرؤية والواقع
منذ تأسيسه، لم يكن الهدف الأساسي لتجمع البريكس هو ضم أكبر الاقتصاديات فحسب، بل تشكيل تكتل اقتصادي عالمي يتمتع بثقل سياسي واستراتيجي. ومع ذلك، يبدو أن التركيز في المرحلة الحالية ينصبّ أكثر على توسيع العضوية وزيادة عدد الدول المنضمة بدلاً من استقطاب الاقتصادات الكبرى فحسب. هذا النهج يهدف إلى تحقيق توازن بين الكم والنوع، مما يمنح “البريكس” ثقلاً دبلوماسياً واقتصادياً أكبر، خاصة في ظل سعيه لأن يكون تكتلاً يجمع بين قوى صاعدة وأخرى نامية.
التحديات أمام العملة الموحدة: ماذا نتعلم من مؤتمر “بريتون وودز”؟
إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد أن النظام المالي العالمي الحالي الذي يعتمد على الدولار الأمريكي تم تأسيسه في مؤتمر “بريتون وودز” الشهير عام 1944. هذا المؤتمر جمع الدول الكبرى في العالم آنذاك لوضع نظام مالي يعزز التعاون بين الدول بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك، من المنطقي أن يكون لدول البريكس تطلعات مماثلة لعقد مؤتمر شبيه، بهدف تأسيس نظام مالي جديد بعيد عن هيمنة الدولار.
ومع ذلك، فإن التخلي عن الدولار ليس أمراً سهلاً أو سريعاً كما قد يتصور البعض. الدولار يشكل العمود الفقري للاقتصاد العالمي، حيث تقدر نسبة المعاملات التجارية الدولية التي تتم بالدولار بنحو 88%. علاوة على ذلك، تشكل احتياطات الدول بالدولار جزءاً كبيراً من الثروة النقدية العالمية، مما يعزز مكانة الدولار كعملة ملاذ آمن.
العملة الموحدة للبريكس: بين التطلعات والواقعية
إذا كانت دول البريكس ترغب حقاً في تطوير عملة موحدة، فإن هذا المشروع يواجه عدة تحديات. أولاً، يجب أن يكون هناك توافق بين الدول الأعضاء على نوع النظام المالي الذي يريدون تأسيسه. الدول الأعضاء في البريكس تختلف من حيث توجهاتها الاقتصادية والسياسية، مما يجعل من الصعب التوصل إلى صيغة موحدة بسرعة.
ثانياً، يحتاج إنشاء عملة جديدة إلى بنية تحتية مالية قوية، تشمل مؤسسات مالية دولية قادرة على إدارة وتوزيع هذه العملة، وكذلك آليات لتحديد قيمتها مقارنة بالعملات الأخرى. لكن الواقع يشير إلى أن دول البريكس ما زالت في مراحلها الأولى لبناء هذه الهياكل المالية، وما زال أمامها الكثير من العمل.
العوامل الاقتصادية والسياسية: عقبات كبيرة في الطريق
التوترات العالمية الحالية تلقي بظلالها على أي جهود لإطلاق عملة موحدة لدول البريكس. العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وروسيا، وبين الصين والدول الغربية، تزيد من تعقيد الوضع. العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا تزيد من الضغوط على موسكو للسعي إلى فك ارتباطها بالدولار، ولكن في المقابل، يتطلب تطوير بديل فعّال وقتاً طويلاً.
على المستوى السياسي، تحتاج دول البريكس إلى توافق ليس فقط اقتصاديًا، بل أيضًا عسكريًا. التحالفات العسكرية والاستراتيجية بين هذه الدول يمكن أن تسهم في تعزيز الثقة المتبادلة بين أعضائها وتدعيم استقرار العملة الموحدة في المستقبل. ومع ذلك، لا يمكن التغاضي عن التباينات الكبيرة بين سياسات الدول الأعضاء، مما قد يعيق هذا التعاون الشامل.
هل العملة الموحدة قريبة المنال؟
من غير المرجح أن ترى عملة البريكس الموحدة النور في المستقبل القريب، بالنظر إلى التحديات الراهنة. إنشاء عملة جديدة يحتاج إلى توافق طويل الأمد بين الدول الأعضاء وتطوير بنية تحتية اقتصادية قوية. الأمر قد يستغرق عقوداً، وليس سنوات قليلة، لتحقيق هذا الهدف الطموح.
علاوة على ذلك، لا يمكن تجاهل أن النظام المالي العالمي الحالي مبني على أسس عميقة ومعقدة تمتد لقرون، وأي محاولة لتغييره ستكون محفوفة بالمخاطر الاقتصادية والسياسية.
البدائل المطروحة: خطوة نحو التغيير؟
على الرغم من صعوبة إنشاء عملة موحدة في الوقت الراهن، إلا أن هناك بدائل أخرى قد تساهم في تقليل الاعتماد على الدولار. من بين هذه البدائل، توسيع استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري بين دول البريكس، وإنشاء نظام مالي موازٍ يعمل جنباً إلى جنب مع النظام الحالي.
كما أن تعزيز دور العملات الرقمية قد يلعب دوراً مهماً في هذا السياق. روسيا والصين أظهرتا اهتماماً متزايداً بتطوير العملات الرقمية الوطنية، والتي قد تكون إحدى الأدوات المستخدمة في التخفيف من الهيمنة الدولار في المستقبل.
الخلاصة: التحديات والفرص
في النهاية، يمكن القول إن فكرة إنشاء عملة موحدة لدول البريكس هي مشروع طموح ولكنه يواجه عقبات كبيرة في المدى القريب. التخلي عن الدولار يحتاج إلى جهود طويلة الأمد وتوافق بين الدول الكبرى، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي. ومع ذلك، فإن الأوضاع الحالية قد تكون دافعاً لهذه الدول لتكثيف جهودها نحو تحقيق استقلال مالي أكبر عن النظام العالمي القائم.