في ظل التحولات السياسية الكبرى في العالم العربي، تبرز جماعة الإخوان كواحدة من الحركات التي تلعب دورًا معقدًا، متشابكًا مع مصالح خارجية وداخلية. منذ تأسيسها، لم تكن الجماعة بعيدة عن استغلال الأزمات القومية الكبرى، وكان تركيزها الأساسي منصبًا على تعظيم نفوذها من خلال استثمار المشاعر الجماهيرية تجاه قضايا حساسة. “القضية الفلسطينية” كانت واحدة من تلك القضايا التي استخدمتها الجماعة بذكاء لتحقيق مكاسب سياسية، مستفيدة من تصدير نفسها كحامي للحقوق الفلسطينية. د. ريتشارد ميتشل، المؤرخ الأمريكي، يصف الجماعة بأنها “كانت دائمًا بارعة في تحويل القضايا القومية إلى أدوات لتمكين نفسها، وليس بالضرورة لخدمة تلك القضايا نفسها.”
البدايات: استغلال ثورة 1936 الفلسطينية وذكاء حسن البنا
بداية علاقة جماعة الإخوان بالقضية الفلسطينية تعود إلى ثورة 1936 الفلسطينية، التي جاءت بعد اغتيال الشيخ عز الدين القسام، حيث استغل حسن البنا مؤسس الجماعة تلك اللحظة التاريخية لبناء قاعدة جماعته السياسية. بحسب المؤرخ وليد عبدالناصر، كانت هذه الحركة جزءًا من رؤية البنا الأوسع لتقديم جماعته كقوة بديلة عن الحركات الوطنية العلمانية والقومية. أظهرت وثائق بريطانية أُفرج عنها مؤخرًا أن البنا استفاد من تسهيلات قدمتها الاستخبارات البريطانية. كان الهدف هو الحفاظ على توازن القوى في المنطقة في مواجهة التيارات القومية، التي كانت تتصاعد، بينما استغلت الجماعة هذا الدعم غير المباشر لتوسيع شبكتها الدعوية.
حسن البنا والاستخبارات البريطانية: علاقة معقدة
رغم إعلانه العداء للاستعمار، إلا أن حسن البنا كان يدرك أهمية العلاقة مع بريطانيا لتحقيق أهدافه السياسية. المفكر الإسلامي طارق البشري يعلق على هذه العلاقة قائلاً: “كان البنا يعرف كيف يوازن بين مواقفه العلنية وخططه السرية”، مشيرًا إلى أنه حصل على دعم بريطاني بشكل غير مباشر لتوسيع نفوذ جماعته في مصر والمنطقة. هذا التوازن الدقيق سمح للجماعة بالحركة بحرية في منطقة ملتهبة، بينما كانت القوى القومية تتعرض للقمع.
استغلال القضية الفلسطينية للتوسع السياسي والمالي
جماعة الإخوان لم تتوقف عند توظيف القضية الفلسطينية للتأثير على الرأي العام فحسب، بل استغلتها أيضًا لجمع التبرعات الضخمة من المسلمين في مصر والعالم العربي. الباحث عمار علي حسن يوضح في دراسته أن “الإخوان تمكنوا من تحويل الدعم المالي المخصص للقضية الفلسطينية إلى أداة لتمويل توسعهم السياسي”. لم تكن تلك الأموال تذهب دائمًا إلى دعم المقاومة الفلسطينية، بل كانت تساهم في تعزيز النفوذ الاقتصادي للجماعة، من خلال استثمارات استراتيجية في العقارات والأراضي.
كيف استخدم البنا اليسار لخدمة أهدافه؟
عند دراسة تحركات البنا السياسية، نجد أنه استغل التيارات اليسارية في مصر والعالم العربي لتحسين موقع جماعته في الساحة السياسية. هذا التحالف غير المعلن ساعد الإخوان في الوصول إلى الشباب والمثقفين الذين كانوا يتجهون نحو اليسار والقومية في تلك الفترة. الباحث محمد حسنين هيكل يشير إلى أن “البنا لم يكن يجد حرجًا في التحالف مع اليسار إذا كان ذلك يخدم أهدافه السياسية”، مؤكداً على مرونة الجماعة في التعامل مع خصومها الأيديولوجيين.
الدعم البريطاني لجماعة الإخوان: تفاصيل جديدة
استمر الدعم البريطاني للجماعة في مراحل مختلفة، إذ سمحت بريطانيا للإخوان بالحركة داخل دول الشام والعراق والأردن، بينما كانت التيارات القومية تواجه تضييقًا من السلطات الاستعمارية. بحسب الوثائق التي حصل عليها المؤرخ ديفيد هيرست، كانت بريطانيا ترى في الإخوان أداة مفيدة في مواجهة تصاعد الحركات القومية. سمحت هذه العلاقة المعقدة للجماعة بتوسيع نفوذها بشكل لم يكن ممكنًا للحركات القومية التي واجهت قمعًا واسعًا.
حماس والإخوان: التحالف المتين
عندما تأسست حركة حماس في عام 1987، كانت بمثابة امتداد طبيعي لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. الباحث الفلسطيني مصطفى البرغوثي يشير إلى أن “حماس استطاعت أن تجمع بين العمل العسكري والدعوي، مما جعلها لاعبًا أساسيًا في الصراع الفلسطيني”. كانت علاقة حماس بجماعة الإخوان قائمة على الدعم المالي واللوجستي المستمر، مما عزز من قوتها على الأرض.
استغلال حماس للقضية الفلسطينية: نفس الاستراتيجية القديمة
منذ تأسيسها، استخدمت حماس القضية الفلسطينية لتعبئة الجماهير وكسب التأييد الشعبي. الباحث الفلسطيني عزمي بشارة يرى أن “حماس واصلت توظيف القضية الفلسطينية بنفس الطريقة التي بدأتها جماعة الإخوان، كوسيلة للبقاء في السلطة، حتى في ظل الانتقادات الموجهة إليها”. حماس استخدمت خطاب المقاومة لتوجيه الانتباه بعيدًا عن التحديات الداخلية التي تواجهها في غزة.
العلاقة المعقدة بين الإخوان وحماس ودول الخليج
تستمر العلاقة بين الإخوان وحماس وبعض الدول الخليجية في التوتر، خاصة مع اتهام بعض الأنظمة الخليجية لحماس بالتقارب مع إيران. الكاتب السياسي السعودي جمال خاشقجي كان يشير في إحدى مقالاته إلى أن “العلاقة بين الإخوان ودول الخليج كانت دائمًا محكومة بالمصالح المتغيرة”. ومع تصاعد الخلافات الجيوسياسية، ازدادت حدة التوتر بين حماس وبعض الأنظمة الخليجية التي تعتبر إيران تهديدًا.
استمرار استراتيجية الإخوان: القومية الإسلامية أم أدوات سياسية؟
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الجوهري: هل القضية الفلسطينية بالنسبة لجماعة الإخوان هي مسألة قومية إسلامية أم أنها أداة لتحقيق أهداف سياسية؟ الدكتور عبد الوهاب المسيري، الباحث في الحركات الإسلامية، يرى أن “الجماعة كانت دائمًا قادرة على التكيف مع المتغيرات السياسية، وتستخدم القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسبها السياسية”. الجماعة كانت وما زالت تستغل التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية كأداة فعالة للحفاظ على نفوذها السياسي.
مستقبل الإخوان والقضية الفلسطينية
مع تصاعد التحديات التي تواجه جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس، يبدو أن استغلال القضية الفلسطينية سيظل جزءًا من استراتيجيتها. الخبير السياسي يزيد صايغ يشير إلى أن “الجماعة تظل قادرة على العودة إلى الصدارة في أي لحظة تستجد فيها الأزمات”، وهو ما يبرز استمرارية استراتيجيات الإخوان في استخدام الأزمات القومية لتحقيق أهدافها.
ختامًا، يظل استغلال جماعة الإخوان للقضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من سياستها لتحقيق المكاسب السياسية، وهو ما مكنها من البقاء كقوة سياسية فاعلة رغم التحديات التي واجهتها على مر العقود.