بقلم صموئيل العشاي:
نعيش اليوم في عالم مليء بالصراعات والأطماع، حيث تتشابك المصالح السياسية وتتصادم القوى الإقليمية والدولية، ما يعكس واقعاً معقداً ويزيد من تعقيدات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. هذه الأطماع تأتي من الغرب والشرق، ومن الداخل والخارج، حيث تسعى كل قوة لتحقيق مكاسبها على حساب الشعوب والدول الأخرى. مصر، باعتبارها دولة محورية وذات ثقل سياسي وتاريخي، تجد نفسها في موقف حساس، تحاول الموازنة بين هذه الأطماع والمرور بأمان عبر التحولات الكبيرة في الإقليم.
الأطماع الغربية: سياسة الفوضى وعدم الاستقرار
منذ الحقبة الاستعمارية، ظل الغرب ينظر إلى الشرق الأوسط كمسرح لتحقيق مصالحه الاقتصادية والسياسية، وهو ما أدى إلى سلسلة من التدخلات التي لم تهدف إلى نشر الديمقراطية أو تحقيق السلام، بل إلى ضمان السيطرة على الموارد الطبيعية، خصوصاً النفط والغاز.
المستعمرات الأوروبية في الماضي، والوجود العسكري الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، شكلا الأساس لسياسات تهدف إلى إبقاء المنطقة في حالة توتر مستمر. كتب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي عن هذه الأطماع قائلاً: “السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لا تهدف إلى الاستقرار بل إلى السيطرة”، مشيراً إلى أن وجود حالة من الصراع الدائم يخدم المصالح الغربية.
وفي إطار هذه السياسة، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بدعم الحركات الانفصالية والمعارضة المسلحة في بعض الدول، بينما غضوا الطرف عن قمع الحكومات الأخرى عندما يخدم ذلك مصالحهم. النتيجة هي حالة من الفوضى والصراع الدائمين، حيث تستخدم الأطراف الغربية أدوات مثل العقوبات الاقتصادية، والتدخلات العسكرية، والدعم المادي للمليشيات المسلحة لزعزعة الاستقرار، والهدف الأساسي هو إضعاف القوى المحلية وتحقيق الهيمنة على الموارد.
الصراع الإيراني الخليجي: لعبة النفوذ الإمبراطوري
في الطرف الآخر من الصراع، نجد إيران التي تسعى إلى توسيع نفوذها في المنطقة عبر ما يمكن تسميته بـ”إحياء الإمبراطورية الفارسية”. الصراع بين إيران ودول الخليج ليس جديداً، بل يمتد لعقود طويلة، وقد زاد هذا الصراع حدة بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، حيث تمكنت إيران من بسط نفوذها على العراق عبر دعم مليشيات شيعية، مثل “الحشد الشعبي”، وأخرى في لبنان واليمن وفلسطين، مثل حزب الله والحوثيين وحماس.
لقد أصبح واضحاً أن إيران تستغل الاضطرابات السياسية في دول المنطقة لتوسيع نفوذها. ففي العراق، دعمت إيران نظاماً موالياً لها، وفي لبنان تمكنت من جعل حزب الله لاعباً رئيسياً، وفي اليمن دعمت الحوثيين ليصبحوا قوة مهيمنة هناك. ويشير الكثير من المحللين إلى أن الهدف النهائي لإيران هو إنشاء “الهلال الشيعي”، الذي يمتد من طهران عبر العراق وسوريا ولبنان حتى البحر المتوسط.
هذا الطموح الفارسي لا يخيف فقط الدول الخليجية، بل يؤرق القوى الدولية أيضاً، لأن إيران تسعى إلى أن تكون قوة إقليمية مسيطرة، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات مشددة عليها، ومع ذلك، تستمر إيران في توسيع نفوذها. يقول هنري كيسنجر، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، في كتابه “النظام العالمي”: “إيران تلعب لعبة معقدة تهدف إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفقاً لرؤيتها الخاصة”، ما يؤكد أن الأطماع الإيرانية ليست مجرد مصالح قومية بل هي جزء من طموحات إمبراطورية.
الخوف الخليجي: الأنظمة المترنحة وغضب الشعوب
في المقابل، تعيش الأنظمة الخليجية حالة من القلق المتزايد، حيث تجد نفسها محاصرة بين الأطماع الإيرانية والغضب الشعبي الداخلي. فبينما تحاول هذه الأنظمة التمسك بالسلطة، تواجه غضباً متزايداً من شعوبها التي ترى في إيران بديلاً سياسياً. هذا ما يظهر بشكل جلي في البحرين واليمن والعراق، حيث تحولت بعض الأقليات الشيعية إلى أدوات في يد إيران لزعزعة استقرار هذه الدول.
من الواضح أن هذه الأنظمة الخليجية، التي تعتمد بشكل كبير على الثروات النفطية للحفاظ على استقرارها، تواجه تحديات داخلية هائلة. فهي تخشى أن تنفجر أوضاعها الداخلية في أي لحظة، نتيجة للضغوط الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، خاصة في ظل وجود فئة كبيرة من الشباب الذين يشعرون بالإحباط من عدم توفر الفرص وعدم وجود إصلاحات حقيقية.
ولعل أبرز مثال على هذا التوتر الداخلي هو الموقف السعودي تجاه “الربيع العربي”. فعندما اندلعت الاحتجاجات في مصر وتونس وليبيا وسوريا، كانت السعودية والإمارات أكثر الدول قلقاً من أن تمتد هذه الاحتجاجات إلى داخلها. ولذلك، دعمتا الأنظمة القديمة وساهمتا في تمويل حملات قمع المعارضة، خوفاً من أن يؤدي التغيير في هذه الدول إلى تهديد استقرار الخليج.
دور مصر: توازن القوى والحفاظ على الاستقرار
في وسط هذه الصراعات المعقدة، تقف مصر، الدولة الأكبر عربياً من حيث عدد السكان والقوة العسكرية، كمحور توازن. تاريخياً، كانت مصر تلعب دوراً حيوياً في تحقيق الاستقرار الإقليمي، كما كان لها دور كبير في صد الأطماع التوسعية، سواء كانت أطماعاً غربية أو إيرانية.
مصر، التي تعرضت لضغوط كبيرة في السنوات الأخيرة، تجد نفسها اليوم في موقف شديد الحساسية. فهي تواجه تهديدات من الجنوب، حيث تحاول إثيوبيا فرض سيطرتها على مياه النيل، وهو ما يمثل خطراً وجودياً على المصريين. كما تواجه ضغوطاً من الشمال والغرب، حيث يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تحقيق أقصى المكاسب الممكنة عبر تحالفاته مع بعض الدول الغربية، بينما تستغل إيران الفوضى في المنطقة لتوسيع نفوذها.
الاستعمار الغربي ومحاولات الضغط على مصر
لا يخفى على أحد أن الأطماع الغربية في المنطقة لا تنتهي. في الآونة الأخيرة، برزت قضية سد النهضة الإثيوبي كواحدة من أبرز التحديات التي تواجه مصر. وعلى الرغم من المحاولات الدبلوماسية التي قامت بها القاهرة لحل الأزمة سلمياً، فإن العديد من الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، لم تتخذ موقفاً صارماً ضد إثيوبيا. بل على العكس، يُتهم الغرب بأنه يسعى إلى زعزعة استقرار مصر من خلال دعم مشاريع مثل سد النهضة التي تهدد الأمن المائي المصري.
هذه المحاولات الغربية تأتي في سياق أوسع يتعلق بمحاولة إضعاف الدور المصري في المنطقة. فمنذ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في عام 1978، ظل الغرب ينظر إلى مصر على أنها الدولة القادرة على تحقيق توازن القوى في المنطقة. ومع ذلك، فإن هناك محاولات مستمرة من القوى الغربية للحد من النفوذ المصري، سواء من خلال التلاعب بالملف المائي أو بدعم القوى الإقليمية المنافسة، مثل تركيا وإسرائيل وإيران.
الاحتلال الإسرائيلي وأطماع إثيوبيا: محاولات الحصار على مصر
منذ سنوات، تتهم مصر الاحتلال الإسرائيلي بمحاولة استغلال أزمة سد النهضة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب المصريين. ويبدو أن إسرائيل ترى في ضعف مصر فرصة لتحقيق المزيد من النفوذ في المنطقة، حيث تسعى إلى إنشاء تحالفات جديدة مع دول مثل إثيوبيا وتركيا.
إسرائيل، التي تسعى دائماً إلى توسيع دائرة نفوذها في الشرق الأوسط، ترى في الأزمات الداخلية والخارجية للدول العربية فرصاً لتحقيق مكاسب استراتيجية. وعلى الرغم من العلاقات التي تجمعها ببعض الأنظمة العربية، فإنها لم تتوقف عن محاولاتها لخلق واقع جديد في المنطقة. وقد يكون دعمها الضمني لإثيوبيا في بناء سد النهضة جزءاً من هذه المحاولات لعزل مصر عن محيطها وتقليل نفوذها في الساحة الإقليمية.
تاريخياً، لم تكن الأطماع الإسرائيلية في المنطقة مجرد محاولات لتحقيق السلام أو الأمن كما تدعي، بل تركزت على تحقيق أهداف توسعية واقتصادية، تشمل السيطرة على مصادر المياه والطاقة، وكذلك النفوذ السياسي. في كتابه “الحروب من أجل المياه”، يشير الكاتب الإسرائيلي أرييل شارون إلى أن “الماء سيكون قريباً أهم من النفط”، وهو ما يوضح الأهمية الكبيرة التي توليها إسرائيل لمسألة التحكم في الموارد المائية، سواء في فلسطين المحتلة أو في دول الجوار. لهذا، فإن دعمها لإثيوبيا في ملف سد النهضة لا يمكن قراءته إلا كجزء من خطط أوسع لمحاصرة مصر وضرب أمنها القومي.
إيران وإسرائيل: عدوان ظاهريان وهدف واحد
من المثير للاهتمام أن إيران وإسرائيل، على الرغم من التناقضات الظاهرة بينهما، تشتركان في هدف واحد هو زعزعة استقرار العالم العربي وتقسيمه إلى دويلات ضعيفة. تستغل إيران الأزمات الداخلية في الدول العربية لتوسيع نفوذها، بينما تحاول إسرائيل الاستفادة من هذا الضعف لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. فإيران تستغل الصراعات الطائفية والدينية في دول مثل العراق وسوريا واليمن، بينما تركز إسرائيل على تعزيز تحالفاتها مع الدول غير العربية، مثل إثيوبيا، لتقويض النفوذ المصري.
إسرائيل، التي تحرص على إبقاء المنطقة في حالة دائمة من الفوضى، تحاول دائماً اللعب على التناقضات بين القوى الإقليمية المختلفة لتحقيق مكاسب لنفسها. فرغم العداء الظاهر بين إيران وإسرائيل، يتشارك الطرفان في العديد من المصالح غير المعلنة، مثل إبقاء الدول العربية في حالة ضعف وتقسيمها إلى كيانات أصغر وأكثر هشاشة.
في كتابه “السياسة الشرق أوسطية” أشار الباحث الإسرائيلي داني روبنشتاين إلى أن “إسرائيل تستفيد من الفوضى في العالم العربي لإقامة تحالفات جديدة مع قوى إقليمية غير عربية”، في إشارة إلى العلاقات التي تجمعها بإثيوبيا وبعض الدول الإفريقية الأخرى. مثل هذه التحالفات قد تكون جزءاً من خطة أوسع لفرض طوق حول مصر وعزلها عن محيطها الجغرافي.
الخليج وإيران: تنافس على النفوذ وهاجس السقوط
في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل وإثيوبيا لخلق واقع جديد في المنطقة، نجد أن دول الخليج تواجه تحدياتها الخاصة في مواجهة الطموحات الإيرانية. فمنذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، تسعى طهران لتصدير ثورتها إلى باقي دول المنطقة، وخصوصاً الدول الخليجية. وقد دفع ذلك دول الخليج إلى تبني سياسات دفاعية متشددة، تشمل الإنفاق الكبير على التسليح وبناء تحالفات عسكرية مع الدول الغربية.
الخوف الخليجي من إيران لا يتعلق فقط بالطموحات الجيوسياسية، بل يمتد إلى الداخل، حيث تخشى هذه الأنظمة من أن تؤدي الطموحات الإيرانية إلى إثارة اضطرابات داخلية في صفوف الأقليات الشيعية في دول مثل البحرين والسعودية. وقد تجلت هذه المخاوف بشكل واضح في الأزمة البحرينية عام 2011، عندما واجهت الحكومة البحرينية انتفاضة شعبية مدعومة جزئياً من إيران، وهو ما دفع دول الخليج إلى إرسال قوات درع الجزيرة لدعم النظام البحريني.
اللافت أن هذه السياسات الدفاعية الخليجية لم تؤدِّ إلى تحقيق الاستقرار المنشود، بل زادت من التوترات مع إيران، التي استغلت كل فرصة لزيادة نفوذها في المنطقة. ففي اليمن، دعمت إيران الحوثيين، الذين سيطروا على العاصمة صنعاء وبدأوا يشكلون تهديداً مباشراً للأمن السعودي. وفي لبنان، أصبح حزب الله، المدعوم من إيران، قوة سياسية وعسكرية مهيمنة، وفي العراق، تواصل إيران بسط نفوذها من خلال الميليشيات الشيعية.
الحرب على غزة: فضيحة الأنظمة الخليجية وتوسعية إيران
لم تكتف إيران بالتوسع الجغرافي من خلال دعم الميليشيات في دول المنطقة، بل استغلت القضية الفلسطينية لتحسين صورتها في الشارع العربي والإسلامي. فبينما تقف العديد من الأنظمة الخليجية في موقف المتفرج، أو حتى المساند الضمني للمخططات الغربية في المنطقة، تظهر إيران وكأنها المدافع الأبرز عن القضية الفلسطينية، من خلال دعمها لحماس والجهاد الإسلامي.
في هذا السياق، تأتي الحرب الأخيرة على غزة لتكشف عجز الأنظمة الخليجية عن اتخاذ موقف حقيقي تجاه ما يحدث. فبينما تدعم بعض الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، الهجوم الإسرائيلي على غزة، تقف الأنظمة الخليجية موقفاً حرجاً بين مصالحها الاقتصادية والعسكرية مع الغرب، وبين رغبة شعوبها في دعم الفلسطينيين. هذه الحرب كشفت بوضوح التناقضات العميقة داخل هذه الأنظمة، التي تجد نفسها عاجزة عن اتخاذ موقف جريء، بينما تواصل إيران استغلال هذه الفرصة لتقديم نفسها على أنها القوة المدافعة عن الفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، تسعى إيران إلى استخدام القضية الفلسطينية كوسيلة لتوسيع نفوذها الإقليمي. فبدلاً من أن تكون القضية الفلسطينية عامل توحيد بين العرب والمسلمين، أصبحت ساحة صراع بين القوى الإقليمية، حيث تستغل إيران حالة الضعف والتفكك العربي لتحقيق أهدافها التوسعية. هذا المشهد يذكرنا بقول الصحفي البريطاني روبرت فيسك: “الحروب في الشرق الأوسط ليست مجرد صراعات بين دول، بل هي صراعات على الهوية والسلطة، حيث تستغل كل قوة نقاط الضعف لتحقيق مصالحها”.
مصر: الجدار الأخير
في ظل هذه التحديات الجسيمة، تظل مصر، بتاريخها وجغرافيتها ودورها المحوري في العالم العربي، الجدار الأخير في مواجهة الأطماع الإيرانية والإسرائيلية. فعلى الرغم من الأزمات التي تواجهها مصر داخلياً وخارجياً، تبقى القاهرة القوة الوحيدة القادرة على لعب دور حقيقي في تحقيق التوازن الإقليمي ومنع انهيار المنطقة.
لقد أثبت التاريخ أن مصر كانت دائماً عامل استقرار في المنطقة. ففي حروبها مع إسرائيل، تمكنت من صد الأطماع الصهيونية، وعبر دعمها للقضايا العربية، كانت دائماً في طليعة المدافعين عن الحقوق العربية. ويذكرنا التاريخ بأن مصر، منذ عهد الفراعنة وحتى الحروب العربية الإسرائيلية، كانت حصناً منيعاً ضد محاولات الهيمنة الخارجية.
خلاصة
العالم العربي اليوم يواجه تهديدات غير مسبوقة من مختلف الجهات. الأطماع الغربية تسعى لإبقاء المنطقة في حالة من الفوضى لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، بينما تسعى إيران لإحياء إمبراطوريتها الفارسية عبر دعم الميليشيات والأنظمة الموالية لها. وفي الوقت نفسه، تحاول إسرائيل تحقيق مكاسب على حساب الضعف العربي، بالتعاون مع دول غير عربية مثل إثيوبيا.
في هذا السياق المعقد، تظل مصر هي الأمل الأخير لتحقيق التوازن والحفاظ على استقرار المنطقة. تاريخ مصر الطويل في مواجهة التحديات يجعلها القادرة على لعب دور محوري في منع انهيار النظام العربي ومنع الأطماع الخارجية من تحقيق أهدافها. لكن هذا يتطلب تضافر الجهود الوطنية والإقليمية، وفهماً عميقاً للتحديات التي تواجه المنطقة اليوم.